منذ أن ظهر الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب كمرشح للإنتخابات الأمريكية دأب على بناء خطابه السياسي وفق منهج مبتكر وجديد يختلف بشكل كبير عن ما إعتاد عليه الناخب الأمريكي الذي طالما استمع وتابع خطابات السياسيين التي كانت دائماً تحاول أن تمسك العصا من المنتصف وأن تظهر أكثر دبلوماسية في التعاطي مع القضايا التي تهم الشارع الأمريكي بهدف كسب أكبر قدر ممكن من التأييد الشعبي والدعم المالي من مكونات المؤسسات الأمريكية الصانعة للسياسة.
خطاب ترامب هذا وهو خطاب ليس حكراً عليه أو مخترعه، هو خطاب التصنيف الذي خاطب وما زال يخاطب هؤلاء الأمريكيين على يمين الامتداد السياسي الذين يشعرون بالتهميش والانعزال في بلادهم امريكا التي وفق رؤيتهم باتت لا تشبه تلك البلاد التي نشأوا فيها وتربوا على مبادئها التي تفصل بين الأعراق وتنظر من أعلى لكل مختلف عنهم و بأنهم مواطنون في أعظم بلاد في الدنيا.
من هنا نشأ خطاب وضع جميع الخصوم في بوتقة التصنيف الموحد، فترامب إكتشف انه من أجل شيطنة الخصوم وجذب التأييد كان لزاماً عليه أن يضع الحزب الديمقراطي في بوتقة اليسار ككتلة واحدة، فالجمهور الذي يخاطبه لا يثق في السياسي بطبيعته وبالتالي سيقبل ويتبنى أي تصنيف يحاكي شعوره بحقيقة مخاوفه تجاه ذلك الحزب الذي يعمل على هدم كل المعتقدات و الأفكار الأمريكية التي تجول في ذهنه، من هنا أصبح الليبرالي هو اليساري و اليساري هو الليبرالي، لا فرق بينهم فجميعهم أحفاد نظرية شيوعية خطيرة تهدف إلى هدم أمريكا وهو الخطاب الذي تبناه في الماضي ويتبناه اليوم بكل سعادة اليمين.
وصف الليبرالية الديمقراطية بأنها يسارية وراديكالية هو خطأ لا يقل استغفالاً عن وصف المحافظة الجمهورية باعتبارها يمينية ومتطرفة، وعلى الرغم من أن الامتداد الفكري والحزبي في أمريكا الذي يقاس بمستوى القرب والبعد يميناً ويساراً عن المنتصف حيث الديمقراطي ينحو بإتجاه يسار الوسط و الجمهوري بإتجاه اليمين إلا أن القول بأن كل محافظ هو يميني بالضرورة هو تضليل وخطأ علمي مفضوح تماماً كما القول بأن كل ليبرالي هو حتماً يساري.
ولكي نفهم حقيقة هذا التضليل الذي في كثير من أدبياته يأتي مقصوداً ويستهدف إستغفال المتابع البسيط، كان لزاماً أن نوضح الفروقات بين الليبرالي واليساري الأمريكي خصوصا لواقع بات لا يرى بالضرورة في كلمة ليبرالي على أنها كفراً بواح كما كان يُعتقد به ويروج له في مجتمعات كانت تعيش انظمة محافظة بينما تعيش اليوم وتطبق ملامح من النظرية الليبرالية في جانبها الاجتماعية دون أن تكون قد تبنت أي من ملامحها السياسية والإقتصادية والحقوقية.
للتفريق بين ما هي الليبرالية وما هي اليسارية في أمريكا سأتناول بشكل مبسط عدة قضايا جوهرية تناولتها عدة كتابات لباحثين أمريكين في تشريحهم لهذه المسألة عبر تسليط الضوء على اهم القضايا التي من خلالها يمكن التفريق بين الليبرالي و المحافظ مثلاً او بين اليساري واليميني، من قبيل الموقف من قضايا كالعرق و الرأسمالية والحريات وغيرها من القضايا.
لنبدأ في النظرة نحو الاختلاف بينهم بخصوص فكرة القومية، فالليبراليون يؤمنون بالدولة القومية سواء كانت تلك الأمة الولايات المتحدة أو فرنسا أو البرتغال، بينما اليساريون يقسمون العالم حسب الطبقة وليس بالهوية الوطنية ويرفضون فكرة القومية رفضاً تاماً، لذلك نجد أن الليبراليون يريدون دائمًا حماية السيادة والحدود الأمريكية بينما اليسار يعملون على تطبيق الحدود المفتوحة.
لطالما كان الليبراليون مؤيدون للرأسمالية ويعملون بإلتزام لتحقيق المشاريع الحرة ويؤمنون أنها الطريقة الوحيدة لانتشال أعداد كبيرة من الناس من آفة الفقر، صحيح أن الليبراليين يريدون من الحكومة أن تلعب دورًا أكبر في الاقتصاد من المحافظين إلا أن الليبراليين لم يعارضوا الرأسمالية أبدًا ولم يكونوا أبداً من دعاة الإشتراكية كما يتهمهم بها اليمين، وهو الإتهام الذي يصح لو كان موجهاً بشكل محدد نحو اليساريين الذين بالفعل يؤمنون بالقيم الإشتراكية .
ربما من أكثر الإختلافات وضوحاِ بين الليبراليين واليساريين هو موقفهم فيما يتعلق بالجانب العرقي، بمعنى لون بشرة الإنسان، فالموقف الليبرالي تجاه العرق هو أن التركيز في قضية العرق في كل شئ يعتبر موقفاً عنصرياً على إعتبار أنها قضية غير مهمة على أساس أن هناك جنس واحد فقط هو “الجنس البشري” الليبراليون كانوا على الدوام ملتزمين بحماسة بالتكامل العرقي، بينما كان اليساريون يلتزمون بشكل متزايد بالفصل العنصري مثل حرصهم على وجود مهاجع جامعية منفصلة مخصصة للسود وحفلات تخرج الطلبة السود من الجامعات.
لطالما كان الليبراليون ينظرون لبلادهم أمريكا بتبجيل، الواقع الذي يمكن ملاحظته بجلاء في الأفلام الأمريكية منذ الثلاثينيات وهي الأفلام التي كانت تحتفل بأمريكا كلها تقريبًا على الرغم من أن الليبراليون كانوا يدركون تمامًا عيوب أمريكا، إلا أنهم اتفقوا مع أبراهام لنكولن على أن أمريكا هي “آخر وأفضل أمل على وجه الأرض” أما اليسار فيعتبرون أمريكا عنصرية ومتحيزة جنسياً ومعاد للمثليين وللأجانب وهي دولة عنيفة وإمبريالية.
فيما يتعلق بحرية التعبير فالليبراليون الأمريكيون يلتزمون بمقولة لم يلتزم أحد أكثر منهم بها وهي “أنا لا أوافق تمامًا على ما تقوله ولكنني سأدافع حتى الموت عن حقك في قول ما تريد”، أما اليساريين فهم يقودون اليوم حملة قمع واسعة النطاق لحرية التعبير في أمريكا الحديثة نشهدها في الجامعات إلى شركات التكنولوجيا التي تتحكم في الإنترنت إلى محاولة قمع جميع المناحي في المؤسسات وأماكن العمل وغيره، في وقت يدعي اليسار أنه فقط يعارض “خطاب الكراهية” والذي في حقيقته قد يعني أي شيء يختلف عن موقفهم، بمعنى أنه قد يعتبر تعتبرك أنت أو أنا المخالف لموقفه كلامًا يحض على الكراهية، وهو موقف لا يتبناه الليبرالي الذي يقبل حقك ما دمت لا تستخدم حقك هذا في التعبير إلى محاولة إيذاء جسدي أو سلب الآخر من حقوقه التي يكفلها له القانون والدستور
لطالما دافع الليبراليون عن الحضارة الغربية وسعوا إلى حمايتها، فالليبراليون يحتفلون بإنجازات الغرب الأخلاقية والفلسفية والفنية والموسيقية والأدبية، فقد استشهد الرئيس فرانكلين روزفلت بالحاجة إلى حماية الحضارة الغربية وحتى “الحضارة المسيحية”، ومع ذلك فعندما تحدث الرئيس دونالد ترامب عن الحاجة إلى حماية الغرب والحضارة في خطاب ألقاه في وارسو قامت وسائل الإعلام اليسارية المعروفة أيضًا باسم وسائل الإعلام الرئيسية بشجب خطابه ذاك، و جادلوا بأن الحضارة الغربية ليست أفضل من أي حضارة أخرى وأن كلام الرئيس ليس إلا تعبير ملطف عن “تفوق البيض”.
الدين بالنسبة لليبرالي ليس بالأمر المهم، فكثير منهم لا يمارسون أي دين ومع ذلك فإن بعضهم يمارس الدين وملتزم به، بينما اليساريين في غالبهم لا يعترفون بدور الدين ولا يمارسونه كجزء من ممارساتهم الحياتية، أما فيما يتعلق بالموقف من الحرية فالليبراليون يعتقدون أن الفرد يجب أن يتمتع بحرية أكبر من الحرية التي تتمتع بها الحكومة، في حين يرى اليساريون أن الحكومة يجب أن تتمتع بسلطة أكبر وحرية أكبر في التصرف من الأفراد وذلك لضمان تحقيق المساواة بين أفراد المجتمع، من هنا يمكن فهم اختلاف الموقف فيما يتعلق بحق النقد، فالليبراليون هم أكثر انفتاحًا على انتقاد أنفسهم والآخرين بينما اليساريين هم بشكل عام أكثر عدوانية تجاه النقد ويحاولون طمسه وقمعه إذا كانوا في السلطة.
أما موقف الليبراليين من التعليم فهم يؤمنون بضرورة وجود منح دراسية للأمريكيين على أساس الجدارة بدلاً من التعليم المجاني، في حين يؤمن اليساريون بوجوب تطبيق التعليم المجاني الكامل، وهو موقف يتطابق مع موقفهم فيما يتعلق بالرعاية الصحية التي يؤمنون بأنها يجب أن تكون مجانية بالكامل، في حين يرى الليبراليون بضرورة تطبيق نظام رعاية صحية يدفع فيه الناس مبلغًا رمزيًا كتأمين حتى بالنسبة للمطالبات الطبية الأعلى.
وفيما يتعلق بالضمان الاجتماعي يؤمن الليبراليين بأهمية توفير الضمان الاجتماعي لكبار السن من خلال بوليصة تأمين على الحياة ميسورة التكلفة، أما اليساريون فيؤمنون بالرعاية الكاملة لجميع كبار السن من خلال تمويل الدولة.
موقف الطرفين يختلف أيضاً في نظرتهم للأيديولوجية، فالليبراليين يؤمنون بإعطاء أقصى قدر من الحرية للفرد لفعل أي شيء دون تقييد حقوق الأفراد الآخرين، أما اليساريون فيؤمنون بالاشتراكية والشيوعية كهدف نهائي، أما فيما يتعلق بالثقافة فالليبراليين لا يهتمون بتقاليد وعادات الشعوب الأخرى حتى لو كانت تلك التقالبد والعادات غير منطقية او غير عقلانية ما لم تشكل تهديدًا للمجتمع، أما اليساريون فيعارضون كل أنواع التقاليد الثقافية والعادات التي يجدونها غير منطقية وغير عقلانية.
أما بخصوص رؤية الطرفين في القضايا الاقتصادية فإن الليبراليين يؤمنون بممارسات أكثر تحفظًا، بينما يرى اليساريون أن الحكومة بحاجة إلى لعب دور أكبر في الاقتصاد، نجد ذلك جلياً في الموقف من الضرائب، فالليبراليون يعتقدون أنه يجب أن يكون هناك المزيد من الإعفاءات الضريبية للأثرياء وتقليل الرقابة الحكومية بشكل عام، بينما يعتقد اليساريون أن الأثرياء يجب أن يدفعوا ضرائب أعلى لتمويل البرامج الاجتماعية الأخرى المصممة لمساعدة أولئك الذين لا يستفيدون من الرأسمالية، كما أن الليبراليين يؤمنون بتقديم قروض زراعية بدون فوائد لمكننة عمليات المزارعين الخاصين، أما اليساريون فيؤمنون بالزراعة التعاونية بدلاً من الزراعة الفردية، إلى جانب أنهم في قطاع الصناعة يؤمنون أكثر بمشاركة القطاع العام عكس الليبراليين الذين يؤمنون بالحرية الكاملة لرواد الأعمال لبناء مشاريع جديدة بغض النظر عن تخصص وطبيعة القطاع.
وفيما يتعلق بفلسفة الطرفين حيال البناء الحكومي والكيفية التي من خلالها يجب أن تدار فيها البلاد فإن الليبراليين يؤمنون باللامركزية القوية والحكم الأدنى، عكس اليساريين الذي يؤمنون بالمركزية القوية والحوكمة القصوى.
اتحفتنا بهذا المقال الوافر. لعل التباين في الفكر اللبرالي واليساري يظهر في كلمات بايدن اللبرالي وغضب ساندرز اليساري.