تابع معظمك ما حدث في تونس في الساعات الأخيرة، فقد قرر الرئيس التونسي قيس سعيّد تجميد عمل البرلمان ورفع الحصانة عن جميع النواب وإقالة رئيس الوزراء هشام المشيشي بعد احتجاجات شعبية عنيفة شهدتها البلاد مؤخراً، في وقت تباينت ردود الفعل في الداخل التونسي ما بين مؤيد ومعارض إصطفت وسائل الإعلام العربية بين مؤيد لقرارات الرئيس وأخرى معارضة له واصفة إياه بالانقلاب.
ليكن الأمر واضحاً هنا لكي لا يحّول كلامي القادم بالشكل الذي يهواه من يحب التصنيف وشيطنة المواقف التي لا تتوافق مع توجهاتهم ،فقد كنت دوماً ضد أي توجه في حكم أي البلاد يحتكر ويتحدث بإسم الدين وفي ذات القوت ضد حكم الإستبداد و التفرد في الحكم، كان ذلك واضحاً منذ سنوات في كتاباتي في هذه المدونة وفي كتبي ومقالاتي في الصحف، كما أني لست من المؤيدين لجماعة الإخوان المسلمين الذين أراهم لا يختلفون عن أي من الأحزاب الفاشية التي تقرر أحقية الحكم وفق الإنتماء الديني ضاربين عرض الحائط الإنتماء للوطن وخدمته وفق أهداف تخدم الجميع في حياتهم ومعيشتهم الكريمة وتمتعهم بالحريات والكرامة والعدالة بصرف النظر عن الدين والمنهج الفكري.
ما يحدث في تونس بالمختصر والوقت ما زال مبكراً للحكم النهائي لا يمكن النظر له إلا باعتباره مؤشر خطر لواقع سياسي قد يحول البلاد التي تمر بمرحلة مخاض ديمقراطي من مشروعها الوطني في المشاركة الشعبية إلى العودة به لحكم الأقلية التي ستصبح بفعل ما يقوله لنا التاريخ إلى طبقة حاكمة مستبدة، فعلى الرغم من أن ما عاشته تونس مؤخراً من تقلبات وإخفاقات في العمل الحكومي الأمر الذي أثر سلبياً كما هو معروف على حياة المواطن إلا أن اعتبار واقع الحكم التشاركي هو السبب فيما آلت إليه البلاد يعيدنا مجدداً لحجة البعض بأن سبب تخلف الشعوب هي الديمقراطية وهو رأي قمت بتفنيده في مقال سابق (إقرأه هنا).
شخصياً لا أتصور أن تونس أو الرئيس قيس سعيّد يرغبان في العودة لنمط الحكم الذي ثار عليه التونسيون عام ٢٠١٠ أو على الأقل دعوني أقول أتمنى ذلك، ولا أتصور أن الشعب التونسي مستعد أن يتنازل عن هوامش الحرية والمشاركة التي حققها في السنوات الإحدى عشر السابقة فقط بسبب تعطيل حزب النهضة لمسار التقدم والحكم الرشيد للبلاد، إلا أني قد أكون مخطئ تماماً، فقد تم تنحية جماعة الإخوان في مصر عبر القوة وليس عبر الإنتخابات، وتحولت مصر من دولة كان فيه نواة لمشروع ديمقراطي إلى دولة حكم الرئيس القوي المتفرد في الحكم.
في العالم العربي اليوم مدرستان، إحداهما تدعو للمشاركة الشعبية وحكم الأغلبية ولكنها تخطي خطأ فادح عند التطبيق في إهمالها حقوق الأقلية، وأخرى تفضل حكم الفرد ولتذهب الديمقراطية والحقوق والحرية للجحيم، والصراع الذي نراه يتجلى اليوم في تونس عبر شاشات الفضائيات يتمحول حول قصتين مختلفتين لواقع واحد، وهو التجلي الذي يؤكد لنا أن ما يحدث في تونس ليس شأناً تونسياً خالصاً بالضرورة، ولعلي أضيف أنه ربما لم يكن ليتحقق لو لم يكن هناك دعم من هذا الطرف أو ذاك لإحداث تغيير يعيد تونس لواقع حكم الفرد في مقابل طرف يعمل كل ما في وسعه لدعم الحزب الإسلامي الذي يُروج له على أنه صاحب إمداد شعبي في تونس وأقصد به الإخوان، وذلك لكي يبقى في الحكم ويسيطر على مقاليد كل شئ دون أن يكون لديه مسار واضح يأخذ البلاد إلى بر الأمان الإقتصادي والإجتماعي والسلم الوطني.
بعد الربيع العربي بكل ما أنتجه من إخفاقات في بنية فكرة الديمقراطية في العالم العربي والناتج عن تلك الأحزاب التي وصلت للحكم عبر الصندوق وقررت التنمر والتعامل مع الواقع الجديد بفلسفة استبداد الأغلبية، فإننا نمر اليوم في مرحلة ربما هي الأخيرة – إن هي مضت بإعادة تونس لواقع ما قبل ٢٠١٠ – نحو وأد فكرة الديمقراطية كنمط حكم سياسي محتمل في منطقة يبدو أنها قد تم التقرير لها على أن تُحكم بأيدي رجال أقوياء لا يقبلون بالرأي الآخر أو بالمشاركة الشعبية.
حكم الأحزاب التي تتنمر وتصدر مشاريعها الأممية للخارج فشلت في النازية الهتلرية وفي الفاشية الموسولينية والبعثية الصدامية وستفشل إن حاكى الإخوان أو أي حزب سياسي يصل للحكم ذات المنهج، ولمن يتصور أن حكم الفرد قادر على الحكم بالحديد و النار فإن التاريخ يقول لنا أنه فشل تماماً كما فشل هتلر وموسوليني وصدام.
إن لم يكن الشعب هو الأولوية وصاحب الصوت والقوة في شرعية النظام الحاكم ستبقى الأحزاب الفاشية تسيطر على وهم الأغلبية وسيستمر المستبدون في احتكار الحكم القوة.