جريمة الجانب المظلم للإعلام

المقال منشور في جريدة البلاد السعودية

من أهم مقومات نجاح أي قصة خبرية وانتشارها، هو مدى ملامستها للأفكار التي ترسخت في أذهان الناس وأصبحت في تصوراتهم مسلمات لا تقبل الجدال، بحيث تصبح هذه القصص تأكيدات لما ترسخ في ذهن المتلقي
عبر تجاربه وقناعاته وذخيرة يستعان بها لإثبات الرأي في مواجهة الرأي المخالف.

في الآونه الأخيرة أصبح الإعلام ذاته بأشكاله القديمة والحديثة محور القصة الخبرية ذاتها من خلال الجدالات التي تحاول أن تستقرئ مستقبله كصناعة أو تحاول أن تعيد النظر في حدوده المهنية والأخلاقية وتعمل على صياغة نمط جديد من العمل الإعلامي من حيث اتجاه إنساب الرسالة وعلاقة المرسل بالمتلقي والعكس.

عندما انكشفت فضيحة صحيفة (نيوز أوف ذا وورلد) قبل شهر، أدى ذلك لفتح المجال لأن تتحول السلطة الرابعة التي راقبت وحاكمت وشكلت الرأي العام لسنوات طويلة إلى موقع المراقَب والمحاكم من قبل الرأي العام والذي بدوره سخر وسائل الإعلام الجديدة التي يملك مفاتيحها لأداء ذلك الدور، بحيث أصبح صراع البقاء بين القديم والجديد يتجلى على مسرح محاسبة الجديد للقديم لتجاوزه أخلاقيات طالما برر بها تميزه على خصمه المفتعل وأحقيته في البقاء والاحترام والتقدير.

قبل يومين، انكشفت في بريطانيا فضيحة إعلامية جديدة من نوع يمس صميم العمل الإعلامي وحرفيته، ففي حين كانت فضيحة (نيوز أوف ذا وورلد) تلامس خصوصيات الناس، لامست الفضيحة الجديدة المتمثلة بانكشاف حقيقة مقالة الصحافي الإنجليزي جون هاري “الجانب المظلم لدبي – The Dark Side of Dubai” والتي كتبها قبل نحو عامين والتي اعتمد في كتابتها علي الكذب والفبركة واختلاق لروايات الشهود، حيث زعم فيها – ونتيجة لانعكاسات الأزمة الاقتصادية التي أصابت العام قبل ثلاثة أعوام – أن بيوت الوافدين للعمل في دبي أصبحت تتهاوى في الرمال وأصبحوا ينامون في سياراتهم في مواقف الفنادق وأن آلاف السيارات تركت في مواقف مطار دبي.

الصحافي والذي يعمل في إحدى أعرق الصحف البريطانية “ذا اندبندنت” أوقف مؤخرا عن عمله وتجري حاليا اتخاذ إجراءات لسحب جائزة أورويل للصحافة والتي منحت له، لكن يبقى في تقديري أمر هام يجب النظر فيه والتمعن في معانيه، خصوصا وأن القصة المفبركة ساهم في تصديقها وانتشارها واعتبارها مرجعا للوضع الإقتصادي الذي كان يمر بدبي حينها، هو توقيت نشر المقال، حيث أن الجميع حينها كان سيصدق أن دبي تنهار لاعتبارات مختلفة، وأن استغلال شخص واحد لسلطة القلم في تثبيت صورة غير صحيحة في عقل جمهور يسهل التلاعب فيه في مثل تلك الظروف، هو في تصوري جريمة يجب أن لا تقف عند حد سحب الجائزة والإيقاف من العمل، لأن التنصت وإن كان يعد تجاوزا أخلاقيا كما فعلت (نيوز أوف ذا وورلد) إلا أن الكذب والفبركة ممن يفترض بهم الصدق المطلق والحياد التام يعد جريمة أخلاقية.

الإعلام الغربي بالمقابل تعامل مع انفجار ومذبحة النرويج التي وقعت الإسبوع الماضي وراح ضحيتها أكثر من 91 إنسان برئ بطريقة أراها أكثر احترافية مع الإعلام العربي الذي سارع – في عمل يفتقر للمهنية والتروي والاحتراف المهني – في توجيه أصابع الاتهام لمجموعات إسلامية متطرفة، والسعي للسبق الصحفي على حساب المهنية في تصرف يشرح لنا فكرة “ملامستها الأفكار التي ترسخت في أذهان الناس” واعتبار المسّلم به هو ما يجب تأكيده، في ممارسة قد يشرحها البعض بمقولة “اكذب .. اكذب .. اكذب حتى تتحول الكذبة لحقيقة”، فبعد يوم من الجريمة تعلن الجهات الرسمية النرويجية أن المخطط والمنفذ لهذه الجريمة البشعة هو أحد أبناء النرويج الشقر من اليمين المسيحي المتطرف الذي – ويا لسخرية الصدف – قام بجريمته تلك كرها وحقدا على الإسلام وانتشاره في القارة الأوروبية.

بين كذب صحفي لفق ادعاءات كاذبة لتحقيق إنجاز شخصي غير مستحق وبين السعي لنيل السبق على حساب المهنية والمصداقية يكمن الإشكال في حرفية إعلام تقليدي أصبح ينجرف نحو عيوب الإعلام الحديث وفق ما يوصف به، فأصبح الإعلام قديمه وجديده يعمل في أرض واحدة لا تمايز فيها بين من يدعي الحرفية والمصداقية وبين من يوصف بالهواية والافتقار لمفاهيم الدقة والحياد والصدقية.

النقل الإخباري في أوقات الأزمات يعد من أخطر المهام وأصعبها للإعلام، حيث أن الأجندات المتصارعة تجد لنفسها مكانا لتمرير قناعاتها للجمهور المتلقي، وفي ذات الوقت هي البيئة المناسبة لخلق الإشاعات وتثبيت الأفكار الخاطئة حول ذلك أو ذاك، فقد كانت دبي دائما في نظر الغرب مجرد واحة صحراوية تزينت بالناطحات بدلا من النخيل وأقرب لسراب – كما قال لي أحدهم – من واقع حقيقي دائم وملموس، وأصبح للأسف الإسلام في أعين الكثيرين ممن لا يفضلون النظر بحياد للأمور كما هي على حقيتها الشماعة التي يعلقون عليها جميع إخفاقاتهم البشرية وتجاوزاتها، وهي تصورات غير حقيقية أخشى أن يجعل تغاضي خطورة اللعب بها والكذب عليها حقيقة مع الوقت في عقول هؤلاء ممن لم تلوث عقولهم بعد بالأفكار المسبقة


أرسلها عبر الفيس بوك
انشرها عبر تويتر

عزيزي زائر المدونة أشكرك على تلطفك بالمحافظة على النقاش الهادئ و المتزن و الهادف للإستفادة و الإفادة. تحياتي ... ياسر

2 responses to “جريمة الجانب المظلم للإعلام”

  1. edmonton oven repair

    Hello, i think that i saw you visited my website thus
    i came to “return the favor”.I’m attempting to find things to enhance my site!I suppose its ok to use some of your ideas!!

  2. Hipolito M. Wiseman

    I just want to say I’m newbie to blogging and seriously loved your web blog. Very likely I’m likely to bookmark your blog post . You amazingly have excellent posts. Regards for revealing your blog.

اترك تعليقاً