من أهم الكتب التي تناولت موضوع السياسة في التاريخ الحديث هو كتاب “روح السياسة” لـ”غوستاف لوبون” الذي صدر عام ١٩١٠ والذي حاول فيه أن يسبر أغوار النظرية السياسة الخاصة بالجماعات الإنسانية وتشريح النهج الإستبدادي في الحكم مقارنة بمنهجية الصراعات بين المدرستين الإشتراكية والرأسمالية ودور الاستعمار في نهب خيرات الشعوب.
وعلى الرغم من أن الكاتب في كتابه عمل على شيطنة الحرية باعتبارها كذبة تصدّرها الدول الكبرى وهو في حقيقته لم يجانب الصواب تماماً، إلا أني أختلف معه من حيث رسم هذه الصورة التي تعطي الإنطباع أن الحرية في ذاتها أكذوبة ووبال على الناس إلى جانب رفضي لميله نحو فكرة أن الاستبداد السياسي يمكن اعتباره ملاذاً آمنا للشعوب.
وأحببت هنا أن أقدم للقارئ الكريم ملخصات لأهم النقاط التي لفتت نظري بعد قراءة هذا الكتاب المهم عبر سرد السياقات التي وجدتها تستحق التمعن والتفكير.
يقول لبون أن روح السياسة هي روح الأفراد وروح الجماعات وروح الشعوب ودروس التاريخ، وأن الناس لا تسّلم بالآراء لصحتها، بل يسلمون بها عندما تستولي بفعل التكرار والعدوى الفكرية على دائرة اللاشعور التي هي علة السير فينا، أي أن الناس من وجهة نظر لوبون هم في حقيقتهم منقادون تعطلت فيهم ملكة التفكير والتحليل والاستنتاج الحر.
ويضيف في سياق آخر، سوف نرى أن للإقناع منهلًا آخر، فالجماعات لا تتأثر من انسجام الخطاب المنطقي أبدًا، بل مما تورثه بعض الكلمات في نفوسهم من صور عاطفية، وإذا سلمنا بأن الخطبة العقلية الخالصة قد تقنع النفس، فإن هذا الإقناع لا يدوم طويلًا ولا يكون باعثًا على السير والحركة.
وفي جانب علاقة الإنسان بالنظم السياسية يستشهد لوبون برأي جان جاك روسو الذي إعتقد أن الإنسان كان سعيدًا أيام كان على الفطرة فأفسدته النظم، وصار شقيًّا، وأن من الصواب تبديل تلك النظم، كما إعتقد روسو أيضًا أن التفاوت مصدر كل عيب في المجتمعات، وأن البغضاء بين الغني والفقير هي علة الشقاء فيها مما دعاه للقول بضرورة السيادة الشعبية لمعالجة ذلك.
ويرى لوبون أن الفرنسيين أدركوا بعد بضع سنين من نشوب الثورة الفرنسية أن الخراب لا الغنى هو الذي يعقب الفوضى، وحينئذ تبحث أي أمة مثلما بحثت في تلك الثورة عن حاكم مطلق نشيط قادر على إنقاذها من براثن الارتباك وقلة النظام، وذلك في محاولة من لوبون لتوصيل فكرة الدكتاتورية باعتبارها مخرج للسلم الأهلي.
يقول عن روح السياسة أنها تستنبط سننها كبقية العلوم من الأعمال والحوادث ثم من تفسيرها، ومشاهدة الحوادث واختبارها في عالم السياسة أسهل من تفسيرها، فلو سهل تفسير الحوادث الاجتماعية لساد الاتفاق بين الناس في شأنها ولما وقع اختلاف فيها.
وفي نقد الإشتراكية يسلط لوبون النظر على أنها تقوم قبل كل شيء على مبدأ الأمل، أي أمل تحسين القدر وتكوين مستقبل سعيد، والأمل مع أنه لا يحل مشكلة السعادة إلا على وجه ناقص تراه من أهم بواعث الحركة التي عرفها البشر في كل حين، غير أن للاشتراكية أشكالًا تختلف باختلاف البلدان، ومن أسباب ذلك عامل العنصر، أي صفات الشعوب الموروثة، ولما بين هذه الصفات من التباين بحسب الشعوب أصبحت الاشتراكية عنوانًا واحدًا لكثير من الرغائب المختلفة، وكيف تكون هذه الصفات ذات طبيعة واحدة، ونحن نرى غرائز سكان الولايات المتحدة الذين يعتمد كل منهم في الحياة على نشاطه الشخصي وقوة استنباطه الفردية، تُناقِض غرائز أبناء الأمم اللاتينية الذين يحتاجون إلى سيد يحميهم احتياجًا أبديًّا؟
وفي معرض حديثه عن الحقوق يقول لوبون أن تكوين أي من الحقوق لا يتم إلا إذا اجتاز ثلاث مراحل؛ وهي العادة والقضاء والقانون، وأن المجتمع الذي تظل حقوقه جامدة غير متجددة يغيب عن الوجود بسرعة، وهذه حال لم تحدث قط، حتى إن الشريعة الإسلامية التي عين القرآن حدودها لم تلبث أن تجاوزت تلك الحدود، وكيف تظل الحقوق ثابتة وكل شيء يتغير في أطرافها تغيرًا يجعل تطبيقها أمرًا مستحيلًا؟ قد يستمر الناس كما يقول لوبون على احترام نصوص الشريعة، ولكنهم سرعان ما يكفون عن مراعاة أحكامها، فقد كان الرومان يمجدون قانون الألواح الاثني عشر دون أن يطبقوها، وكذلك المسلمون الذين يقدسون القرآن ويحولون أحكامه بما يأتون به من تفسير وتأويل.
يقول في موضع آخر، أن الناخب قلما يبالي بالقوانين التي هي وليدة المبادئ، وهو لا يهتم بغير منافعه المباشرة، وإذا انتخب فإنه ينتخب الأشخاص دون أن يعبأ بمبادئهم وآرائهم، مستطرداً في موضع لاحق، فالرجل المطلع على روح الجماعات، وإن كان يكررها أحيانًا لا يطبقها أبدًا، وهو يعلم أن الجموع تخضع لأحكام منطق المشاعر الذي لا تأثير للمنطق العقلي فيه، وأنها وإن هتفت لبروتس لقتله (يوليوس قيصر) لم تلبث أن أرادت إلحاق الأول بالثاني.
وعن الحكومة وعلاقتها بأعداء النظام الحاكم يقول، فمن المفيد أن تعدل الحكومة عن الاستعانة بالأسباب التي تزيد أعداء النظام الحاضر، وهي الضعف والاستبداد وعدم التسامح والاضطهاد، فسوف يطفح الكيل فتصبح هذه العوامل أمرًا لا يطيقه أحد فلا تجد الحكومة لها نصيرًا.
وعن طبيعة الأسباب التي أدت لنشوب الحروب الدينية يقول، وليست الحروب الدينية التي اشتعلت في القرون الوسطى إلا حروبًا بين أمم متباينة؛ أي بين أمم أحبت مذهب الفردية وحرية الفكر وأمم تمسكت بمبدأ الاستبداد الديني والسياسي، وما ينتج عنه من المبادئ في السلطة المطلقة والتقاليد والنظام القرطاسي.
وقد لخص لوبون مساوئ الحرب في ثلاث نتائج حتمية وهي ضياع المال وفقد الرجال وضعف الشعب، مضيفاً أن التجارب أثبتت منذ قرون أن الجيش متى ما فقد عشرين في المئة من أفراده يعد نفسه مغلوبًا، وهذه النسبة هي ما نسميها الحد المخل بالقوة المعنوية.
وحول الجموع وتهييجها في إتجاه معين يقول، يسهل تهييج الجموع لشدة إحساسها، ولا يعسر تحويلها لسرعة تقلبها، فالجموع التي تتوج بحماسة البطل في معبد (الكابيتول) قد تدهوره من شاهق (تاربيان) بمثل تلك الحماسة، فروبسبير الذي كان قبل سقوطه بيوم معبود الشعب الباريسي سيق في اليوم الثاني من سقوطه إلى المقصلة بين صفير هذا الشعب وشتمه، مضيفاً في سياق آخر أن و لعلم الزعيم الحقيقي أن الجماعات خالية من العقل لا يحاول غير التأثير في عواطفها، وبما أن خصمه يفعل بحكم الضرورة مثله يكون النجاح النهائي حليف من يشاغب ويشتد أكثر من الآخر.
وفي موضع لاحق يشخص لوبون سلبية المجتمعات وتبعيتها فيقول، ومن الصفات التي تتصف بها ذهنية الشعب سرعة التصديق، ولا حد لسرعة التصديق في الجموع، فكل شيء ممكن في نظرها، فإذا طلبت القمر وجب وعدها به، فرجال السياسة لا يتأخرون عن الإتيان بمثل هذه الوعود أمامها، وفي معركة انتخابية إذا اتهم أحدهم خصمه بأبعد الافتراءات عن المعقول فسرعان ما يصدقونه الناس، فالجموع تبدي نحو أكابر المجرمين شيئًا من الإعجاب والاحترام على العموم.
وفي ذات السياق يستطرد لوبون فيقول، سرعة التصديق في الجمهور كثيرة، فالجمهور لا يطلب دليلًا ولا يعرف المستحيل، وتقوم الوعود وضروب التوكيد عنده مقام الأدلة، وأكثر شيء يؤثر فيه الإعلانات ذات الهذر والثرثرة، وهو لا يبالي بتكذيب الحوادث للآمال التي أوجبتها فيه تلك الإعلانات، بل هو في بقائه مسلمًا لا يتعدى بصره حدود أنفه.
أما النجاح في ميدان السياسة وفق لوبون فهو قائم على وعد الأوهام والتوكيد بلا دليل وتكرار الوعود نفسها تكرارًا متصلًا ومزايدة الخصم فيها، وأن العوامل الأربعة المطلوبة في إدخال الإيمان إلى قلوب الجماعات تكمن أولًا في “النفوذ”، وهو الذي يوحي إلى النفوس بالأمر ويلزمها إياه وثانيًا “التوكيد” غير المبرهن، وهو الذي يعفي من المجادلة. و ثالثًا “التكرار” وهو الذي يجعل المرء يسلم بصحة الأشياء المؤكدة، ورابعًا “العدوى النفسية” وهي التي يتحول بها يقين الفرد الضعيف إلى يقين قوي.
مضيفاً أن في هذه العوامل الأربعة عناصر الإقناع الأساسية، فإذا قال أساتذة المنطق أضيفوا إليها عنصر العقل فلا تصغوا إليهم، وهي تطبق على أحوال مختلفة، فيها يتذرع باعة الإكسير والأوراق المالية المنحط ثمنها، والإمبراطور الذي يود أن يلزم رعيته ضرائب فادحة لإنشاء أسطول حربي عظيم.
تختلف المعرفة عن المعتقد وفق لوبون الذي يستشهد بكلام أفلاطون الذي لاحظ ذلك فأشار إلى أنهما لا يقومان على أساس واحد، فالمعارف تتضمن أدلة وبراهين، وأما المعتقدات فليس فيها شيء من ذلك، وهذه هي العلة في أن جميع الناس لهم معتقد مع أن عدد الذين يصعدون منهم إلى سماء المعرفة قليل جدًّا.
وعن كيفية إقناع الخطيب جمهوره يقول، يقوم فن الخطابة في المجالس السياسية على علم الخطيب بما ينتظره السامعون منه، فمتى وقع هذا العلم وعمل الخطيب بما يلائمه فبشره بالنجاح.
وعن حتمية النظام البرلماني في الأنظمة السياسية في الأمم المتمدنة يقول، كيف لا يزال النظام النيابي عائشًا على رغم مقت كثير من طبقات الأمة له؟ يظل باقيًا لأنه النظام الوحيد الممكن عند الأمم المتمدنة، فلقد اعتنقته جميعها سواء أملك كان على رأسها كما في إنجلترا وبلجيكا وإيطاليا، أم رئيس منتخب كما في فرنسا وأمريكا، والبرلمان في هذه البلاد هو الذي يشرع والوزراء هم الذين يحكمون.
وعن الحرية والإستبداد يعاود لوبون لرسم الصورة كما يراها فيقول، أعلن خطباؤنا السياسيون منذ بدء الثورة الفرنسية حتى اليوم حقدهم على الاستبداد، وحبهم للحرية مع أن تاريخ هذه الدول يدلنا على مقت الناس للحرية وشوقهم إلى الاستبداد، ولم نتغير منذ عهد لويس الرابع عشر، فالدولة كانت في عهده تضطهد البروتستانت وأنصار (جانسينيوس)، فصارت اليوم تجور على من لم يفكر مثلها.
ويعلنها صراحة في موقف قد يقرأه البعض ينطلق من قناعة شخصية وقد يراه البعض الآخر أن منطلقه دراسة للتاريخ والحراك الإجتماعي فيقول، الحاجة إلى الاستبداد عاطفة قومية ملازمة لمزاجنا النفسي، ويسهل إثبات ذلك ببيان نتائج النظم الواحدة في مختلف الشعوب.