وحده الشريف في عالم من أوغاد !

ازمة هذا الزمان تمكن في النزعة الغالبة على الكثيرين بأنهم وحدهم هم من يعرفون الحقيقة، أو أنهم وحدهم على صواب، فهم الوحيدون أصحاب الأخلاق الحميدة وهم دون غيرهم من يملكون مفاتيح الخلاص ولا سواهم من يعرف مواطن ما يدور وما يجري وما سيكون عليه الزمان من بعد.

شعور بالفوقية نابع لدى البعض من نظرتهم الذاتية اما لعرقهم أو لدينهم أو لوطنهم، فالحقيقة في تقديرهم ميزة لا ينعم بها إلا من تميز بما تميزوا به هم، فعرقهم الصافي كفل لهم أن يعرفوا أن الكمال البشري يتشكل في صفات لا يملكها إلا صاحب ذلك العرق، والوصول للنعيم البشري لا يكون إلا باتباع مسار ارتضاه لنفسه، تعيس من ارتضى بمسلك آخر، أما الولاء  فلا يتجلى إلا بعبارات وتجليات صورية ولفظية سطرها شاعر فطحل كسب بكلماته ثناء التاريخ.

ولكن لماذا نجد أن نتاج أي حضارة في الأساس نابع من تراكم معارف حضارات و أعراق و أقوام أخرى، هل كان سيبقى العلم ليتوارثه الأجيال لولا اختراع الصينيون للورق، وهل كان وصول الغرب للقمر أن يتم لولا أرضية رياضية وضعها قدماء اليونان، وهل كانت لتتنوع الأفكار وآليات التفكير ويسود المنطق لولا ترجمات المسلمين لفلاسفة العصور العظماء، هل كان العالم اليوم هو ذاته لولا حضارة المايا ومصر القديمة وسومر !

قد يتفاجئ البعض وقد لا يتفاجئ إن علم أن معظم الأديان اليوم تتشابه في كثير من أوجهها، فالقيم والمبادئ التي تدعو لها هي ذاتها في جميعها، فالعدل والسعادة والتعاون والعطف والمحبة كلها مشتركات بينها، وقد لا يكون مستغرباً لمن بحث أن يكتشف أن كثير من القصص التي تروى في معظم تلك الأديان تتشابه، فالتاريخ الإنساني الحقيقي واحد، قد تختلف التفاصيل لتمييز كل دين عن الآخر إلا أن الوقائع هي ذاتها.

ورغم الإتفاق بينها في ذلك إلا أنها تختلف في تحديد مسألة الصواب و الخطأ و هنا تكمن إشكالية التمييز والتفرد والفوقية المعرفية وإقصاء الآخر، فكيف يعرف الإنسان أن الصواب صواب و كيف يعرف أن الخطأ خطأ، الإجابة ببساطة تكمن في إعتماده على استرجاع و ترديد من قيل له أنه صواب و أنه خطأ، البعض يردد دون وعي ويفضل أن ينساق مع الجموع لكي لا يظهر شاذاً بينهم، و البعض الآخر مقتنع تماماً بما قيل فيردده بثقة مطلقة، ولكن كيف لهذا الشخص أن يقنع آخر لا يشاطره الرأي بأن الصواب صواب و الخطأ خطأ إن هو إعتمد في محاولة إقناعه على ترديد ما قيل له، فقد لا يكون الرأي مقنعاً للآخر مهما بدى مقنعاً لصاحبه، وهنا تظهر الإشكالية بأن الخطأ و الصواب إن نحن جردناهما من الأحكام المسبقة غير المتفق عليها يبقى الصواب يحتمل الخطأ و الخطأ يحتمل الصواب، وعليه فالقول بمعرفة حقيقة الصواب ليس إلا ضرب من القناعة الذاتية غير مثبته.

أما على مستوى الأوطان والأقوام فكلها عبر التاريخ ارتكبت المجازر كما أنها بنت الصروح، فجلها بدأ مفتتاً فوحدها المنتصر عبر صراع سياسي وقومي وديني، ليس هناك قوم يستطيع أن يدعي الكمال والصفاء و الشرف الكامل، فالتاريخ سجل قد يغيّبه البعض لطمس جرائمه لكنه يبقى في سطور الكتب و في الذاكرة الجمعية، فأمريكا التي تدافع اليوم عن العدالة وحقوق الإنسان هي ذاتها التي فجرت قنبلة هيروشيما وناغازاكي، ودولنا العربية التي تتحدث عن كرامة المواطن في مسعاها للاستقلال عن المستعمر هي ذاتها التي لا يملك فيها المواطن حق الرأي والمشاركة الشعبية الحرة، وأوروبا التي تدعي كمال نظامها السياسي هي التي أخرجت لنا منهج (فرق تسد) وأنجبت للعالم هتلر وموسوليني، والصين التي تزهو اليوم بإقتصادها ليست إلا نتاج ارواح ملايين البشر الذي ضحوا بحياتهم خلال عقود في نظام شيوعي لا إنساني.

ازمة هذا العالم ببساطة أنه إقصائي، الكل يدعي أنه يحمل في جعبته طريق الخلاص والكمال، وحده هو الشريف في عالم من الأوغاد، في وقت لو فكرنا قليلاً بتجرد سنكتشف أننا جميعا الإثنين معاً، ليس فينا واحد لم يقترف الخطأ ولم يظل السبيل، ليس فينا واحد كامل كما أن ليس فينا أحد ناقص بسبب عرقه أو دينه أو وطنه، ليس فينا واحد يملك الحقيقة وليس فينا واحد ضمن طريق الخلاص وليس هناك أي أحد منا مهما يحمل من قناعة وثقة ضمن أنه بالفعل على الطريق الصحيح لتحقيق سعادته، فكم من مدعي سعادة لا يعرف معاني التعاون والعطف والمحبة، يعيش الوهم لوحده في حين كل من حوله يعرف مدى تعاسته.

طفل معدم في أدغال أفريقيا أو عشوائيات آسيا أو امريكا اللاتينية قد يكون أسعد وأعدل وأكثر إنسانية وشعور بالمحبة والعطف على الغير من خريج جامعة مرموقة يشغل وظيفة مهمة ولديه أسرة متماسكة ويعيش في دولة متقدمة ومؤمن إيمان عميق بقناعاته، فمن منهما يملك الحقيقة والرأي الصواب، وإن كنت تعتقد عزيزي القارئ أن هناك إجابة قاطعة بإما صح أو خطأ فأنت ربما أصبت وربما تكون على خطأ، فالمسألة نسبية.


أرسلها عبر الفيس بوك
انشرها عبر تويتر

عزيزي زائر المدونة أشكرك على تلطفك بالمحافظة على النقاش الهادئ و المتزن و الهادف للإستفادة و الإفادة. تحياتي ... ياسر

اترك تعليقاً