“روسو” .. فيلسوف الثورة والحكومة الإرستقراطية

عكفت خلال الشهر المنصرم على قراءة كل ما أتيح لي من كتابات الفيلسوف الفرنسي “جان جاك روسو” والذي طالما كان إسمه يظهر لي في كل كتاب سياسي أقوم بقراءته، خصوصا في كتب النظرية السياسية أو التاريخ الأمريكي، فإسم روسو أشهر من أن يعرف باعتباره من أهم فلاسفة عصر التنوير ومن أهم من أثرت أفكارهم في إندلاع الثورتين الفرنسية والأمريكية على الرغم من أن روسو كان يخاف من فكرة الثورات حيث أنه كان يعتقد أنها في الغالب لها تبعات مدمرة.

في هذا المقال سألخص للقارئ الكريم بعضاً من أهم ملامح فلسفته وأفكاره والتي أعتقد أنها تستحق التمعن والتفكير خصوصاً أن كثيرين وربما أنا منهم كنا نعتقد ان روسو كان فيلسوفاً صاحب فكر ثوري اكثر من كونه فيلسوفاً إصلاحياً وهو ما اتضح لي انه يجانب الصواب، فالرجل الذي يعتبره الكثيرون مثالي صاحب أفكار مجردة ونظرية لامس في حقيقة ما كتب خصوصا في المراحل التالية من حياته الواقع كما هو وتعامل معه بشكل منطقي بعيد عن المثالية التي يوصف بها، كما وازن في نظرته للسياسة والحكم بين الشعب والإرستقراطية بحيث لم يكن مثل غيره من الفلاسفة الذين تعاملوا مع الإرستقراطية بشئ من الإنتقام و التهميش و الإبعاد المقصود، فظهرت نظريته في كتابه العقد الإجتماعي أقرب للتطبيق في المجتمعات التي ما زالت قوى التاريخ والواقع تهيمن على حقيقة ما يمكن تحقيقه في مجتمع سياسي قابل للحياة.

كان روسو يرى أن الحضارة والتقدم لم تجعل البشرية من الناحية الأخلاقية أفضل أو اسعد، بل ذهب لأبعد من ذلك في الإعتقاد بأنه في النهاية ستدمر هذه الحضارة التي يعيشها الإنسان كل شئ يصنع إنسانيتنا، كما يرى أن الإنسان الحديث الذي لوثته الحضارة مصنوع من ضعف وأنانية وهو أسير للمادية ومنعزل تماماً عن ذاته، كما أن أصل طبيعة الإنسان عند روسو في الأساس كانت خيرّة ولكنها منذ أن ظهرت الحضارة الإنسانية بتكويناتها المنظمة المصطنعة تم إفسادها.

روسوا معروف عنه أنه كان يبجل الإنسان الأول أو الإنسان الطبيعي غير الملوث بالتنظيم الاجتماعي المصطنع وهو أي الإنسان الأول (الطبيعي) لم يشعر ابداً بالنقص أو الدنو الإجتماع بل كان أسعد مما هو عليه الإنسان اليوم، فلم يكن الإنسان الأول كما يرى روسو كائن إجتماعي يتقابل مع محيطه إلا في حالات نادرة، حيث كان يفضل العيش في وحدته ونادراً ما سنحت له الفرصة ليتقارب مع الآخرين وبالتالي نتج عن ذلك أن هذا الإنسان البدائي لم يكون يعرف الفروقات الطبقية بينه وبين الآخرين.

آمن روسو أن المُلكّية هي أساس كل أمراض المجتمع، فالإنسان الأول دائما ما كان يستحوذ على أملاك، وان لديه الحق الطبيعي في ذلك، حتى نشأة الحكومات في الأساس لحل الخلافات حول ملكية الممتلكات بين الناس، ومن خلال إضفاء الحكومة صفة الشرعية على حقوق الملكية بدلا من شيوعها كما كان الأمر قبل ظهور الحكومات أصبح الأغنياء قادرين على السيطرة على معظم الأملاك وإفقار الأغلبية، وبالتالي أصبحت العلاقة الإجتماعية مبنية في المجتمع على أساس سيد و عبد.

يرى روسو أن القوى المهيمنة في المجتمع من خلال هيمنتها تقوم قصداً بالخلط بين مفهوم القوة التي بيدها وبين مفهوم الحقيقة، بحيث تصبح القوه هي الحقيقة في نظرها، وقد كان روسو ناقداً دائماً للمجتمع السياسي الذي كان يراه مصمم لشرعنة عدم المساواة والحفاظ على العبودية الإقتصادية على الأغلبية، الأمر الذي دعاه لمحاولة إيجاد الحل لذلك وإحداث الإصلاح الكامل للمجتمع السياسي وهو ما تناوله في كتابه العقد الاجتماعي.

أول سؤال طرحه روسو في كتابه (العقد الإجتماعي) هو أن الإنسان ولد حراً ولكنه في كل مكان أصبح مكبلاً بالأغلال، كيف حدث هذا التغيير؟ وما الذي جعل ذلك شرعياً؟

الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبر كان يؤمن أن الإنسان مستعد للموافقة على عقد إتفاق مع الملك حتى لو كان ذلك يعني عبوديته، حيث أنه من خلال خلق قوة مطلقة تفرض القانون فإن الأفراد الأشرار يمكن ضمان الحماية منهم والسيطرة عليهم، وبالتالي فالقوة تخلق الحق، والسيادة تعني بشكل أو بآخر وفق هوبز القوة.

روسو من جانبه كان يرفض المنطق الذي يقول أن الإنسان يتنازل عن حريته ويصبح بإرادته عبداً، فالتنازل عن الحرية كما كان يرى تعني أن الإنسان سيصنع من نفسه شئ أقل من إنسان، فإن كان الإنسان يخضع للقانون لأنه فقط مجبر على ذلك، فإن الإنسان غير خاضع إخلاقياً للقيام بطاعة ذلك القانون، فروسو مؤمن بأن التجمع الإنساني الإجتماعي هو أكثر فعل طوعي في العالم، وحيث أن كل إنسان يولد حر وسيد نفسه، فإن ليس هناك أحد قادر على إخضاعه دون موافقته.

المواطن عليه أن يلتزم بالقانون لانه يشعر بأنه يجب عليه فعل ذلك وليس لان أحد يفرض عليه ذلك وفق رأي روسو، وعليه فإن الدولة يجب أن تكون تجمع لإرادة حرة، وأن القوانين الإجبارية لا يمكن أن تكون مقبولة إلا إذا قامت (السيادة) التي تصنعها أصلاً ديمقراطية، أي أن مشرّع القوانين هم الناس أنفسهم.

مفهوم (الإرادة العامة) مفهوم مركزي لدى روسو، ويعني أنه تعبير متسامي عن المصالح المشتركة للمواطنين ويتجسد هذا بتجريد الإحتياجات الفعلية التي يريدها المواطنون، وطالب بأن يتنازل كل فرد عن حقوقه الفردية لصالح (الإرادة العامة).

من أهم ملامح فلسفة روسو هي العلاقة بين الطاعة والحرية فهو يرى أن الكل سيطيع ولكن لن يكون هناك فرد واحد أو جماعة واحدة تأمر، وهذه هي الطريقة التي يتم بها جعل (الإرادة العامة) أمراً ملموساً من خلال أن تكون مجسدة في القانون.

كما أن روسو تناول موضوع أصبح إلى يومنا هذا محل جدل وهو مسألة إجبار الحرية على من لا يعترف بها، فروسو يرى ان إجبار الناس على أن يكونوا أحراراً يعني أنه من أجل تعظيم حريات الأغلبية فإن بعض المناهضين للجماعة يجب تقييدهم بالقوة لأنه على المدى البعيد هم أيضاً جزء من المجتمع وسيستفيدون من كل قانون يرفضونه أو يخرقونه.

الفيلسوف الإنجليزي هوبز كان يعتقد أن السيادة والحكومة شئ واحد، بينما روسو كان يعتقد أن المواطنين هم وحدهم من يمكن أن يكوّنوا السيادة، فالناس باعتبارهم سادة المجتمع يجب عليهم أن يجتمعوا ويشرعوا القوانين للصالح العام والحكومة بدورها عليها تطبيق تلك القوانين وفق الحالات التي ينطبق عليها القانون.

يرى روسو أن العقد الإجتماعي بين الشعب والحكومة دائما ما يجب أن يكون قائماً لمدة محدودة، وخاضع للمراجعة بحيث يُمنع أي إحتمال لتراكم القوة في يد واحدة ويُمنع كذلك احتمالية احتواء القوي للسلطة التشريعية.

أفضل الحكومات التنفيذية وفق فلسفة روسو هي تلك التي يتكون أعضائها من الارستقراطيين وذلك لأن الارستقراطين بحكم أنهم لا يعملون بأعمال لجني المال لديهم متسع من الوقت للقيام بواجباتهم في الخدمة الحكومية العامة، كما أنه يرى أن الارستقراطيين لديهم مصادر مالية مستقلة وبالتالي فهم أكثر تحصيناً نتيجة لذلك ضد مغريات الفساد.

في حين كان يرى روسو أن الحكومة التنفيذية الديمقراطية المكونة من العامة قد تسبب الارتباك بين الأدوار المختلفة للمشرعين في مجالسهم وبين عملهم في الحكومة التنفيذية، ففي حال كان التشريعي هو أيضاً تنفيذي فذلك سيؤدي وفق روسو إلى الفساد.

الدين لدى روسو ممكّن وداعم أخلاقي للفرد يساعده ويدفعه لإطاعته للقانون وليس وسيلة في يد الحكومة لفرض ما تريده على المواطن، وأن الحكومة يجب أن لا تبحث في خلفيات المواطنين الإيمانية ولكنها في ذات الوقت لها الحق في رفض حق المواطنة للملحدين و المتطرفين دينياً.

على الرغم من أن فكر روسو قد يبدو أنه فكر (مجرد – نظري) إلا أنه كان كذلك فكر واقعي، فعلى الرغم من أنه كان يؤمن بأنه في الأساس يجب أن تمتلك الدولة كل شئ إلا أنه قبل بواقعية أن يكون للأفراد حق في الامتلاك، كما قبل بفكرة أن عدم المساواة الإقتصادية أمر حتمي، إلا أنه صمم على عدم وجود الغنى الفاحش للأفراد أو الفقر المدقع للأفراد، لأن ذلك سيقود للفساد في الشئون السياسية، وقد لخص هذه الفكرة بالقول (لن يصبح المواطن غني لدرجة تمكنه من شراء مواطن آخر، أو أن يصبح المواطن فقيراً لدرجة أن يبيع نفسه لآخر).

كان لروسو تأثير كبير على عدد من أهم المحطات والأفكار حول العالم، فقد كانت كتاباته كما قلنا مصدراً للثورة الفرنسية ولعهد الإرهاب الذي تلى الثورة (١٧٩٣-١٧٩٤) ومن ثم الثورة الأمريكية، كم يعد أب المدرسة الرومانسية ومؤسس منهج التعليم التقدمي للأطفال، وفلسفته يمكن إيجادها في جذور الفلسفة الوجودية، كما يعتبر ه الكثيرون أنه رائد التحليل النفسي قبل سيغموند فرويد.

كما كان له تأثير على العديد من الفلاسفة الذين أتوا من بعده منهم “ايمانويل كانت” الذي أثر في تفكيره في الأخلاق باعتبارها مدونة سلوك عامة يجب إختيار إتباعها بحرية، و”فريدريش هيغل” في تفكيره بأن الدولة هي كيان مطلق يبتلع الأفراد عبر عمليات معقدة وتاريخية، و”كارل ماركس” الذي اتفق مع روسو في أن الإنسان كائن أناني لأن المجتمع الرأسمالي جعله هكذا، و”جان بول سارتر” في أفكاره حول أهمية الإرادة الفردية الحرة وضرورة اختيار الأصالة وتفضيلها على الفردية الإجتماعية وهي الأفكار التي قادت أسس الفلسفة الوجودية.

يرى روسو أنه (لان العالم الطبيعي له أصل إلهي فإن لدى العالم القوة في التأثير في أولئك الذين يفكرون فيه)، وكانت الكتابة بالنسبة له شكلاً من أشكال العلاج، والتي سمحت له في النهاية من تحقيق فهم أعمق لأفكاره الأصلية.

روسو كان يؤمن بأن الناس يولدون أحراراً ولكن يتم تحويلهم مواطنين، فالإنسان في الأساس حر بينما هو مواطن بالاختيار، وليس العكس.


أرسلها عبر الفيس بوك
انشرها عبر تويتر

عزيزي زائر المدونة أشكرك على تلطفك بالمحافظة على النقاش الهادئ و المتزن و الهادف للإستفادة و الإفادة. تحياتي ... ياسر

اترك تعليقاً