إسطنبول .. تاريخ لشقاوة شرقية

الجو في إسطنبول كما كنت أتوقع بارد قارص منذ اللحظة التي خرجت منها من مطار أتاتورك الدولي و الذي عج بالمسافرين الباحثين عن إكتشاف التاريخ و هؤلاء العائدين للإحتفال برأس السنة مع ذويهم بعد أن طال بهم الإنتظار في أقطار الغربة.
الصباح في إسطنبول هذه الأيام لا يشبه أي صباح، فالشمس هنا لا تشرق إلا في الساعة السابعة و الليل طويل و لكنه في ذات الوقت مفعم برائحة المشاوي و ضحكات الأطفال و نظرات المراهقات بكل خجلهم و شقاوتهم الشرقية، ففي حين تنتظر أن تبدأ الحياة في شوارع هذه المدينة العتيقة تجد أن هناك من يدعوك لكي تستلقي و ترتاح على ضفاف البسفور أو أن تبدء نهارك الكسول بكعك في الطريق الإستقلال مرتشفا شئ من الشاهي الذي إختلط بنفحة ساحة تقسيم الباردة و المليئة بتاريخ لم تصنعه الظروف بل صنعته أمه كان و لا زال بيدها قرارها.
جامع السلطان أحمد أو الجامع الأزرق كما يسمى تختلط المشاعر حوله و عنده، حيث أنك ستقف محتار ما بين كونك تدخل موقعا أثريا و معلما معامريا و فنيا، و بين كونك على أعتاب دخول بيت من بيوت الله، و للحق أقول فإني عند أبوابه إنتابتني غيرة إسلامية جعلتني ربما أستهجن مظاهر السياح ممن إسطفوا من كل حد و صوب ينتظرون دخول جامع تقام فيه الصلاة لا لكي يتعبدوا بل لكي يطلعوا على نقوشات و ديكورات أسموها و ربما هي فن إسلامي.
عموما و بعيدا عن تلك التجليات و الأحاسيس التي نشأت لوحدها و دون تحريك أو توجيه مني وجدتني في ذات الوقت أفتخر أن أجد عظمة إنسانية إحتفلت بمرجعيتها و إرثها الإسلامي و هو الأمر الذي كنت و لازلت أتمناه في بلادي التي تخاف الإحتفال بالتاريخ ما لم يكن مفسرا وفق أهواء بعض ممن يملكون كما يدعون مفاتيح الصلاح و الحق.
و كأنك تقف بين مرآة عملاقة فقد إنعكست صورة الجامع الذي وقف شامخا على اليمين بآية صوفيا التي تربعت على اليسار لتضع العبد لله وسط مسرح من المكان و الزمان أحتفل عبر العصور بأنغام تعبدية و تهليلات و أجراس لدور عبادة تصارعت و تحالفت و عبدت رب واحد و إن تغيرت المسميات و تلونت وجوههم و حناجرهم بآيات تختلف مخارج حروفها و بأحاسيس تتقاطع و لكنها في صميمها الحقيقي لا تتضاد.
هل أنت في مسجد أم في كنيسة أم في معبد أم محفل أو بيت عبادة لطائفة لم تسمع عنها، هذا هو الشعور الذي ينتابك و أنت تدخل آية صوفيا و التي بنيت ككنيسة ثم حولها العثمانيون لمسجد قبل أن ينتهي بها الأمر لأن تصبح متحفا، أمامك لوحات عملاقة دائرية الشكل كتب عليها أسماء الرئيسة منها و التي تجدها أمامك عند الدخول جهة اليمين كتب عليها إسم “الله” و على الجهة المواجه لها على اليسار كتب إسم سيدنا “محمد؛ و بينهما في أعلى السقف رسم جداري لمريم العذراء تحمل سيدنا المسيح عليه السلام في ثلاثية قد تفسر بألف معنى و قد ترى فقط بجمالياتها الفنية،على الجهتين اليمنى و اليسرى للفناء الداخلي علقت لوحات دائرية أخرى كتب عليها بخط عربي جميل أسماء للخلفاء الراشدين رضي الله عنهم إضافة للحسن و الحسين أبناء سيدنا علي رضي الله عنه.
قيل لي بأن إسطنبول تعني زيارة قصر (توب قابي) و الذي ذكرني بتلك القصور التي زرتها في هنغاريا و جمهورية التشيك مع الفرق في كون الإحتفالية التاريخية و الفنية هنا لم تكن لملوك و أمراء أوربيين و سلاف بل لسلاطين و أمراء عثمانيين يشابهون قومي بالدين و كثير من العادات التي تبين لي أنها لم تكن عربية أبدا بل ورثناها من هؤلاء الذين تزينت طرقات قصورهم بصورهم و بفخامة حياتهم و عظمتها و التي جعلت من أرستقراطينا في أعيني مجرد أوضحوكه و تسطيح للفخامة.
تحركت مشاعري بطريقة إنسانية أدخلت فيني الدفئ رغم برد المكان، فالجزء الذي خصص في القصر لعرض الأثار الإسلامية تضمن معروضات تلامس عاطفة و وجدان أي مسلم، ففيها مفاتيحا لبوابة الكعبة الشريفة من عهود مختلفة، و أجزاء من مذهبات الكعبة بما فيها حافظة الحجر الأسود.
إنتابتني قشعريرة غريبة و أنا أقرأ تفاصيل سيوفا جميلة عرضت عند مدخل المتحف الإسلامي داخل القصر، حيث كتب تحت الأول (سيف سيدنا أبوبكر) رضي الله عنه و تحت سيف آخر كبير سيف (جعفر الطيار) رضي الله عنه و سيف سيف الله المسلول خالد بن الوليد و سيف عمار بن ياسر و سيف الزبير بن العوام رضي الله عنه، إضافة لسيوف أخرى لصاحبه آخرون رضوان الله عنهم جميعا.
لا أدري إن كانت تلك العصا التي وضعت في صندوق زجاجي وسط الحائط بالفعل لسيدنا موسى كما أشارت لها اللوحة التعريفية، إلا أنها أثارت لدي شئ من التعجب و الإستحسان في ذات الوقت كوني أقف أمام عصا لأحد أنبياء الله الكرام و هو شئ لابد له أن يحسسك بالبهجة الفرحه.
كل ذلك لا يقارن بالشعور الذي ملئني و أنا أقف أمام صندوق زجاجي كبير وضع في داخله عددا من المقتنيات التي تعود للعصور الأولى من الإسلام و خصوصا تلك التي تعود لسن رسولنا الأعظم الذي كسر في “غزوة أحد” و أمام الصخرة التي وطئت قدمه صلى الله عليه و سلم عليها أثناء المعراج و بقيت أثر رجله عليها و التي تسمى “نقش القدم الشريفة”.
في “مسكن الحريم” و الذي يتضمن ٤٠٠ غرفة و أيوان تنقت بين الغرف التي خصصت لتجهيز الفتيات الجميلات لسادتهم السلاطين و تلك التي كانت تستخدم للحفلات الخاصة التي كان يقيمها السلطان لنفسه للتمتع بالنساء و بالموسيقى قبل أن يقرر إختيار سعيدة الحظ التي سيقبل بها رفيقة لليلته تلك حفظه الله.
المتحفف التاريخي لم يكن ليضيف لي الكثير، فبعد زيارة اللوفر في باريس لم يعد أي متاحف قادرة على التفوق على ما عرضته أروقة ذلك المتحف الفرنسي العظيم خصوصا فيما يتعلق بالأثار الرومانية و الإغريقية و الفرعونية، على أن المتحف يقدم جرعة جميلة من مزيج مقبول للراغبين في الدخول في تفاصيل هذا العالم القديم من طلبة المدارس و الذين أمتلئت بهم أروقة المتحف و بأصواتهم و ضحكاتهم و شقاوتهم الطفولية.


أرسلها عبر الفيس بوك
انشرها عبر تويتر

عزيزي زائر المدونة أشكرك على تلطفك بالمحافظة على النقاش الهادئ و المتزن و الهادف للإستفادة و الإفادة. تحياتي ... ياسر

7 responses to “إسطنبول .. تاريخ لشقاوة شرقية”

  1. Van Ubl

    I simply want to say I am all new to weblog and actually liked your web-site. Very likely I’m likely to bookmark your site . You actually come with wonderful articles. Cheers for sharing with us your web-site.

  2. Hipolito M. Wiseman

    I simply want to say I’m beginner to blogging and site-building and absolutely liked this website. Likely I’m likely to bookmark your blog post . You certainly come with beneficial articles and reviews. Kudos for revealing your webpage.

  3. إسطنبول .. تاريخ لشقاوة شرقية “فيديو”

    […] الموضوع إضغط هنا أرسلها عبر الفيس بوك انشرها عبر […]

  4. يوسف الغسلان

    شكرا
    اتمنا اروح لها
    تجي بالسلامه
    ابن عمك

  5. لولو

    سلام واااو وصف رائع جدا جدا،الله يهدي الاتراك ماخلو شيء في الحجاز من آثار سيدنا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم وآل بيته الاشراف وصحابته الكرام الا أخذوه ايام الاستعمار العثماني بس الحلو انهم حافظو عليها واحترموها وقدروها وعرضوها للعالم…
    رحلة موفقة يااربenjoy your time (:

  6. محمد الجرايحى

    شكراً ياأستاذ / ياسر
    على أنك اتحت لنا هذه الفرصة الطيبة
    لنشاركك التمتع بهذه الرحلة الممتعة……
    بارك الله فيك وأعزك

  7. Tweets that mention إسطنبول .. تاريخ لشقاوة شرقية: الجو في إسطنبول كما كنت أتوقع بارد قارص منذ اللحظة التي خرجت منها من مطار أتاتورك... -- Topsy.com

    […] This post was mentioned on Twitter by Yasser Alghaslan , AllBlogs, Yasser Alghaslan and others. Yasser Alghaslan said: في مدونتي: إسطنبول .. تاريخ لشقاوة شرقية http://twurl.nl/73i0ti […]

اترك تعليقاً