فيينا .. أميرة المدائن

هل سبق و أن تصورت المعنى الحقيقي للفخامة و النبالة و كل الصفات التي ترقى بالإنسان إلى مراتب الإحترام المجتمعي و المكانة الإنسانية وفق المفاهم المستخدمة أو تلك التي بقيت فقط في الكتب و لم تعد لها تطبيقات حقيقية في الواقع؟.

و هل تصورت أن تكون للمدن من شخصية ذاتية و غرور داخلي لا يظهر للعيان إلا أنه في ذات الوقت يتمثل شاخصا و واضحا لكل من يمر بها أو منها أو إليها؟، ربما إستطاعت الظروف أن تجعل من البعض نبيلا و ربما صادفت الأقدار أن تحول أحدهم إلى أرستقراطي يتمايل بين الخلق بكل أبهه يوزع المكرمات على من يشاء و يمنعها بفعل الأنا عن من يشاء، ينظر لنفسه عندما تنعكس أشباهه في ظلام الليل و يقول، كم أنا مهم و إبن شخص مهم و وريث تاريخ مهم.

إيقنت بعد أن كنت في الماضي أعتقد خطأ بأن المفاهيم الراسخه لن تتغير فالمدن قادرة على إحداث إنقلابات في العقل و في العين و الذوق و في مستوى التطلعات، فقد غيرت فيينا في تلك الليلة التي مررت بحافة الطريق كمسافر عابر كل معاني القدسية الإنسانية و المكانة التاريخية و ربما نسفت كذبة التاريخ المكتوب لتثبت ذلك التاريخ الذي رسخ على الأرض و لا تغالطه سطور و لا تألهه ترنيمات أصبحت مجرد همهمات نقولها عند المساء.

في طريقي لشراء تذكرة حضور أوبرا (لوتشيا دي لاميرمور) و التي نصحني بحضورها صديقي الإيطالي الذي قال بأني سأستمع بها كونها تغنى باللغة الإيطاليا، و لأنها تحكي قصة حب بين عشيقين فرقتهما مطامع المحيطين و تنتهي بمأساة (عطيلية) فقد تكون هي المناسبة كما قال لتضع تلك الأصوات و الألحان على تلك الصور التي حفرت في مخيلتك عن هذه المدينة الإمبراطورية، أقول و أنا في طريقي إستوقفني قصر الأمبراطورية و الذي يعرف بقصر (هوفبيرغ) ليجعلني أفكر بعمق في تلك الأجواء الماطرة عن المعاني الحقيقة للسياسة و الحكم و المفاهيم الإجتماعية التي تطبق و تجعل لهذه الحياة من نمط منظم و سلاسة تعيدنا في كل يوم لمكاننا الطبيعي بين الأكوام البشرية المتراصه.

في الأمسية التي قضيتها بصحبة ألحان (موزارت و يوهاين ستراوس) في كونتشيرتو موسيقي حفر في داخلي كما تحفر أسماء الأطفال بأعمارهم، وجدت للمرة الأولى ألحان بإمكانها أن تتحدث إليك و معك و عنك دون كلمات و تنظر في عيونك المنبهره بالمكان و المحيط لترحب بك بإبتسامه عين لا يخطئها قلب و لا يتوه عنها إحساس، فهي ألحان تمازجت بلغة صوتية تكونت بفعل العقل  و بتزاوجه مع الروح و الزمان لتبقى سرمدية تملك سحر القتل بحنان و لديها مفعول الإحياء بوحشية لا يضاهيها جمال.

في مقهي ستاربكس و الذي كان المكان المفضل لي لتناول الفطور كل صباح في تلك الأيام الثلاثة التي قضيتها هناك، تعرفت على أرملة نمساوية في أواخر العشرينات من عمرها أتت للمقهى مع إبنتها البالغة من العمر 6 سنوات و قد إعتادت ذلك فهو المكان الذي تستطيع أن ترى المدينة بوجهها الحقيقي كما تقول،بينما إبنتها و التي كانت حينها تتمتع بإجازة السنة الجديدة تعودت على النهوض كما لو كان لديها مدرسة لتأتي مع والدتها لتستمتع بقطعة من الحلوى الصباحية و كثير من الضحكات و القصص مع والدتها.

تقول نحن  النمساويون نتمنى أن يتوقف الزمان في أحيان كثيرة فقد تمكنت المدنية من أن تحول مفاهيمنا إلى سلعة تجارية متوفره في كل مكان، نظرتها الواقعية لا يمكن تجاهل نبرتها العنصرية كشابة ترى بأن جماليات الحياة و فخامتها أصبحت لمن لديهم المال و من بإستطاعتهم تزوير التاريخ و من لهم المقدرة في أن يتلاعبوا بعقول البشر، فهي لا تخفي قناعتها بأنه لا يوجد مكان على سطح هذه الأرض يفوق فيينا جمالا و أناقة و فخامة، و هي قناعة ليس بمقدوري أن أجادلها فيها كثيرا.

صادفت في ليلتي الأخيرة المرور مجددا أمام مبنى البرلمان النمساوي و الذي بني وفق نمط العمارة اليونانية، و على الرغم من أني سبق أن مررت بذلك المبنى ربما ثلاثة مرات قبل ذلك إلا أني وقفت أمامه لدقيقتين كاملتين اتفحص كل زاوية و أحاول أن أسمع أو أرى أو أشعر بشئ ، إلا أني تجاوزت تلك الدقائق بإبتسامه و كأني أقول لنفسي كفاك من أكل السوشي و لتمتنع عنه لمدة إسبوعين على أقل تقدير، فحينما نكثر من تناول ما لم نعتد عليه يصل بنا الزمان لمحاولة فهم ما لم نربى عليه.

تبقى المدن في كل أنحاء العالم مكونه من بشر و حجر و أرض، إلا أن فيينا و على الرغم من كونها مدينة فيها الجمال بكل أشكاله إلا أنها المدينة الوحيدة في هذه المعمورة التي تجاوزت غيرها بأن خلقت لنفسها مستوى من القيمة لا يشترى و نمط من المعيشة لا يصطنع و معنى للوجود لا وجود له إلا بها، في بحق المرينة الوحيدة الي لها الحق في أن تسمى أميرة المدائن.


أرسلها عبر الفيس بوك
انشرها عبر تويتر

عزيزي زائر المدونة أشكرك على تلطفك بالمحافظة على النقاش الهادئ و المتزن و الهادف للإستفادة و الإفادة. تحياتي ... ياسر

8 responses to “فيينا .. أميرة المدائن”

  1. سارة مارفل

    جميل جدا و اسلوب رائع في الطرح

  2. Lee Konkol

    I just want to tell you that I am just new to blogging and actually loved this web blog. Most likely I’m likely to bookmark your blog post . You really have very good articles and reviews. Thank you for sharing with us your webpage.

  3. حنان

    لم يسبق لي زيارتها لكن اكثر من زاراها تغنى بها
    هي من ضمن المدن التي سأزوها مستقبلا بأذن الله

  4. يزيد

    اشاركك في هذا الحب لها !

  5. خالد كريري

    السفر مغامرة بحد ذاته.ومتعة السغر من نظري هو اكتشاف شي جديد في حياتك يزيد من ثقافتك ويطلعك على عادات لشعوب مختلفين عنك في كل شي.
    الرحال ياسر الغسلان جميل بطرحك ومتميز بالوصف الدقيق.
    ( تصدق يوم انك تتكلم على مبنى البرلمان من قوة حبي للمقالة بديت اتخيل اني واقف هناك معاك يمكن لو طالعت يمينك كان شفتني جنبك هههههها ).

  6. shaborah

    ليالي الأنس في فيينا
    نسيمها من هوا الجنّة
    نغم في الجوّ له رنّة.
    سمعها الطير بكى وغنّى
    _~_~_
    حقيقة شوقتنا لرؤية تلك المدينة الجميلة ..
    كنت رائعا في وصفها ..
    كن بخير ،،.. 

  7. Miss Totey

    جميله هي المدن .. والاجمـــل ما سرد بطريقهـ ممتعه جعلتني اتامل فينآآ من خلاآآآل الكلمآت
    وكانها نافذه تطل بي على تلك الآماكن التى تحيهآ تلك الاوبرآآآ .. تقبل مروري ..

  8. Tweets that mention فيينا .. أميرة المدائن -- Topsy.com

    […] This post was mentioned on Twitter by Yasser Alghaslan and AllBlogs, Yasser Alghaslan . Yasser Alghaslan said: تدوينة جديدة: فيينا .. أميرة المدائن http://wp.me/plzT0-Ge […]

اترك تعليقاً