من أهم الكتب التي قرأت مؤخراً في موضوع العنف السياسي والاستبداد هو كتاب “عنف الديكتاتورية” وعنوانه بالألمانية “كاستيلو ضد كالفن ..أو ضمير ضد العنف” الذي ألفه الكاتب النمساوي المعروف “ستيفان زفانغ” وصدر عام ١٩٣٦ إبان تمدد الفاشية في أوروبا وصعود النازية في ألمانيا.
زفانغ الذي أدرك مبكرا خطر النازية على أوروبا والعالم قرر أن يطلق من خلال هذا الكتاب تحذيراً عله يصل لعقول وضمائر الشعوب حول العالم، ولعلمه بأن المجاهرة في نقد التسلط الهتلري بشكل مباشر قد يودي بحياته كما إعتاد مصير من يغرد خارج السرب في أوقات الشعبوية العمياء والإستبداد المتمدد قرر أن يجلب من التاريخ قصة يمكن أن تكون الاسقاط المناسب التي بها تصل رسالته لمبتغاه.
يسرد الكتاب قصة صراع العقل والرأي الذي دار بين عالم اللاهوت والواعظ الفرنسي “سيباستيان كاستيلو” وهو من أهم دعاة الإصلاح المسيحيين ومن الأوائل الذين دعوا للتسامح الديني وحرية الضمير والفكر وبين “جان كالفن” الذي يعد من أعمدة البروتستانتية والذي أتى لمدينة جنيف السويسرية ليحول مجتمعها الديمقراطي إلى دكتاتورية دينية لا رأي فيها سوى رأيه هو، ولا صوت فيها يخالف صوته.
وحيث أن الكتاب سرد بشكل تاريخي الإحداث التي سبقت تمكن ديكتاتورية كالفن وما تلاها من أعمال استبدادية ومساجلات فكرية ودينية الأمر الذي قد يكون من التفصيلات التي ربما لا تهم القارئ الذي يريد المعلومة المركزة، سأسرد فيما يلي أهم النقاط والملامح التي تناولها الكتابة في مناقشته لفكرة الدكتاتورية والاستبداد والطريقة التي تنتهجها في التعاطي مع المختلف.
يقول “زفانغ ” إن الحدود الضرورية الفاصلة بين الحرية والسلطة تتمثل في أن الحرية غير ممكنة من دون السلطة “وإلا حلت الفوضى” والسلطة غير ممكنة من دون الحرية “وإلا ساد الطغيان”، مضيفاً أنه دائما عندما تفقد مثاليات جيل ما وهجها وألوانها، ما إن ينهض رجل ذو موهبة في الإيحاء ويعلن بطريقة حاسمة أنه وأنه وحده وجد الصيغة الجديدة أو ابتكرها، حتى تتدفق عليه ثقة الآلاف كما التيار بوصفه مخلص الشعب.
يقول في موضع آخر، ينقاد السلطويون إلى اغراء تحويل الأغلبية إلى الإجماع التام وإلى محاولة فرض عقيدتهم على الذين لا ينتمون إلى أي من الأحزاب، لا يكتفون بما لديهم من أزلام وممالقين وصنائع ومن التابعين الأبديين لأي سلطة، بل يريدون ايضا أن يتحول الأحرار والعقول المستقلة إلى أتباع ومداحين وداعمين لعقيدته الوحيدة المعترف بها، فسموا كل صاحب رأي معارض بأنه مجرم في الدولة.
ويؤكد الكاتب أنه لم يفلح أحد حتى الآن في أن يجبر البشرية في عموم الأرض بطريقة ديكتاتورية على تبني دين واحد أو فلسفة واحدة أو مفهوم كوني واحد، ولن يفلح غداً ايضاً، إذ أن الذهن سيعرف دائماً كيف يقاوم التبعية، وسيرفض دائماً أن يفكر وفق صيغ مكتوبة سلفاً، أو أن ينحط أو يهان أو يقزّم أو يدجّن.
وإذا نجحت عقيدة ما مرة في أن تستولي على آلة الدولة ووسائل الضغط التابعة لها يقول “ستيفان زفايغ” فهي تطلق الإرهاب من دون تردد، وتخنق الكلمة في حلق كل من يمس سلطتها المطلقة، إن لم تخنق حلقة ذاته.
يقول أن كل حل وسط بالنسبة إلى طبيعة السلطوي غير ممكن أبداً، ولكي يصبح المرء معبود الجماهير ينبغي أن يكون من قبل شهيداً، فكل الأبطال الشعبيين يدينون للمنفى في تكوين قوة الجذب التي مارسوها على مواطنيهم، فهناك القيصر في بلاد الغال ونابليون في مصر وغاريبالدي في أمريكا الجنوبية ولينين في الأورال، كلهم أصبحوا في غيابهم عن بلدانهم أقوى من ذاتهم في حضورهم، وأن الديكتاتور ينتهج منطلق أن “الذي يبتغي الكل لن يقبل أبداً بنصف مكافأة”.
وفي سياق تحليله لمنهج كالفن الاستبدادي فإنه يقول بأن كالفن كان يرى بأن كل من يعصي دكتاتورية الدعاة سوف يدان بتهمة التحريض ضد الله، وأن كالفن كان يؤمن بأنه لكي ترفع المقدس بأعلى قدر ممكن فوق العالم يجب أن تخفض الدنيوي إلى أسفل درك ممكن ولكي تمنح افكار الله الوقار التام ينبغي أن تحرم أفكار الإنسان حقها وتحط من شأنها.
إلا أنه من خلال الارتباط التام بين الدنيوي والعقيدة الدينية في مفهوم الدولة الكالفيني التوتاليتاري وفق قراءة زفانغ سقطت مظاهر الحياة الخاصة بطريقة آلية تحت رقابة السلطات الرسمية وهكذا فرض بصراحة على زبانية المجتمع الديني القدامى كما يصفهم أن يكونوا العيون الساهرة على حياة الأفراد لا شئ يهرب من انتباههم لا فيما يخص الكلام المحكي فحسب وإنما الأفكار والآراء أيضاً.
وفي موضع آخر يقول المؤلف، أينما أقدمت دولة على ضبط مواطنيها بالترهيب تزهر تلك النبتة المقيتة، نبتة الوشاية الطوعية، وحيث يسمح بالوشاية أو بالآخرى حيث تغدو مرغوبة يتحول بعض البشر الشرفاء إلى وشاة بسبب الخوف، لا لشئ إلا ليبعد التهمة عنه أنه ارتكب مخالفة ضد شرف الله، وعليه فإن التكرار المنهجي لإرهاب الدولة يشلّ إرادة الأفراد ويزيل ويلغي روح الجماعة.
صرح كالفن ذات مرة وبشكل علني أنه من الأفضل لديه أن يرى بريئاً يسام العقاب على أن يرى مذنباً يفلت من حساب الله، ففي خلال السنوات الخمس الأولى من عهد كالفن نفذت في جنيف التي كان يسيطر عليها وهي المدينة التي تعتبر مدينة صغيرة نسبياً أحكام في ثلاثة عشر رجالاً، وقطعت عشرة رؤوس وجرت خمس وثلاثون حالة حرق للأحياء، إضافة لمطاردة ستة وسبعون رجلا من البيوت والأفنية من دون إحصاء العديد من الذين تمكنوا من الفرار من الإرهاب في الوقت المناسب، وما لبثت السجون في أورشليم الجديدة كما كانت تسمى أن امتلأت عن أخرها، حتى أن مدير السجن أبلغ مجلس المدينة أنه لم يعد بوسعه استقبال أي سجين جديد.
ومن الأمثلة العديدة التي يذكرها المؤلف حول رفض كالفن للرأي الآخر ما حدث للمواطن “جاك غروييه” الذي وصف كالفن بالمنافق فنال عقوبة التعذيب تلاها الإعدام، مستطرداً في موضع آخر أن الخوف من الديكتاتور لا يعني على الإطلاق أن المرء يحبه، والذي يخضع ظاهرياً للسلطة الإرهابية لا يعترف بالضرورة بعدالتها، فما من خطر حقيقي يتهدد صاحب فكرة إلا صاحب فكرة أخرى تعارضه.
يشخص زفانغ طرق تعاطي من يصفهم بأولئك الذين يرفضون الانصياع لإغتصاب الضمير في ثلاثة سبل وهي النضال العلني ضد عنف الدولة ويتحول بالتالي إلى شهيد، أو بوسع المرء من أجل أن يحمي حياته وحريته الداخلية أن يتظاهر بالانصياع فيما هو يخفي رأيه الحقيقي، أو الهجرة وذلك في محاولة لنقل الحرية الداخلية من البلد الذي هي ملاحقة فيه وخاضعة للمراقبة إلى بلد آخر حيث يسمح لها بالتنفس من دون معيقات.
يصف المؤلف الرقابة في أنها دائماً الابنة الطبيعية لكل الديكتاتوريات، فكالفن كان دائما غريباً عن كل ولاء في السياسة، بالنسبة إليه كل محاولة للنقد ليست مجرد إختلاف نظري في الرأي وإنما هي جناية ضد الدولة، مؤكداً وفق وصف زفانغ أنه لا يمكن للحرية الفكرية أن تشعر بتحقيق ذاتها في ظل الديكتاتورية، ولا الدكتاتورية تستطيع أن تواصل العيش من دون قلق ما دام رجل مستقل ظل موجوداً ولو واحيداً داخل حدودها.
يلفت المؤلف النظر عن استبدادية المتسلط الديني الذي من المفترض أن يكون متسامحاً عندما يذكر أن الموت على عمود المحرقة عبر الشواء على نار هادئة هو الأشد وحشية بين أنواع التعذيب، وهي الطريقة التي صممت لأول ضحية زندقة في تاريخ البروتستانتية.
وينقل المؤلف عن “سيباستيان كاستيلو” الذي قال عام ١٥٥١ “البحث عن الحقيقة والنطق بها كما نعرفها لا يمكن ابداً أن يعتبر جريمة، لا يجوز فرض قناعة ما على أحد، فالقناعة قرار حر”.
وعلى خلاف كالفن الذي تبنى البروتستانتية فإن مؤسسها “مارتن لوثر”سبق أن قال في تناقض مع استبدادية كالفن “لا يجوز إطلاقاً أن يُكبت الهراطقة وأن يقمعوا بالعنف الظاهر، وإنما ان يتم النضال ضدهم بكلمة الله وحدها، فالهراطقة حالة روحية ليس بوسع اي نيران أو مياه على الأرض أن تغسلها”.
حين يتعلق الأمر بتبرير الظلم يغدو كالفن وفق وصف المؤلف فصيحاً فراح يجادل قائلاً “لا يتعلق الأمر بمنح الحرية لك إنسان ليقول ما يشاء، وإلا ستغدو أفكار الأبيقوريين والملحدين والمحتقرين للذات الإلهية موضع ترحيب، مستطرداً “مثل هذه الرقابة لا تعني بأي حال الحد من الحريات، دائما يردد الديكتاتوريين هذه الذرائع غير المنطقية ذاتها”.
حين يمارس المرء تكميم أفواه الآخرين الذين لا يشاركونه الرأي ذاته، فهو في رأي كالفن وأمثاله لا يمارس أي قهر حسب وصف زفايغ، وإنما هو يتصرف بطريقة صحيحة ويخدم فكرة سامية، هي في هذه الحالة “مجد الله”.
وحول الذائع التي إستخدمها كالفن للترهيب يقول المؤلف، يستنجد كالفن بذريعته الآخرة المفضلة وهي الترهيب، فأعلن أن كل من دافع عن مارق أو وجد له العذر يصبح شخصاً مذنباً يستحق العقاب، وحيث أن كالفن لا يطيق الإعتراض، أراد أن يرعب مسبقاً أي إعتراض، وفي مصير سيرفيت الذي احرقه على العمود التهديد الكافي، إما أن يخرس ويمتثل وإلا يجد نفسه على عمود المحرقة، كالفن يريد أن يغلق إلي الأبد باب المناقشة المؤلمة حول قتل سيرفيت.
في الحروب الفكرية يقول زفايغ ليس الذين يبدأون المنازعات بخفة وشغف هم أفضل المناضلين، وإنما الذين يترددون طويلاً وينشدون السلام في أعماقهم، وكما أن المستبد يتفنن في استبداده فإن أتباع المستبد ومن يأتون بعده قد يكونوا أكثر إستبداداً وتبريراً، فـ “ثيودور دو بيز” الذي أصبح فيما بعد خليفة كالفن قال “أن يكون لدينا طاغية وليكن من أقسى الطغاة، أفضل من السماح لكل إمرئ بالتصرف على هواه”.
“سيباستيان كاستيلو ” في رده على كالفن في نصه المعروف بـ (معارضة منشور كالفن الهجائي) الذي منع كالفن صدوره يخاطبه بالقول “لماذا تغلق أفواهنا ؟ هل أنت مقتنع للغاية من ضعف قضيتك ؟ أتخاف كثيراً أن تهزم وأن تخسر سلطتك الديكتاتورية؟”.
في ذات المنشور يقول “لو كان سيرفيت حاربك بالسلاح لكان من حقك أن تطلب عون مجلس المدينة، لكن بما أنه حاربك بالقلم فقط، فلماذا هجمت على كتاباته بالحديد والنار؟”، مستطرداً في مقولة أصبحت من أشهر المقولات في مناهضة قتل أصحاب الرأي “قتل إنسان لا تعني أبداً الدفاع عن عقيدة، إنما تعني فقط قتل إنسان”.
يكمل “سيباستيان كاستيلو ” محاججته كالفن حول إقصاء الخصوم بالاستبداد والحديد والنار بالقول “كل الذرائع المقدمة أو الملفقة سواء كانت أخلاقية أو منطقية أو قومية أو دينية من أجل تبرير عملية تصفية إنسان لا يمكن أن تعفي مرتكب الفعل أو الذي أصدر الأمر من مسئوليته الشخصية”، موضحاً في موضع آخر من رده “ما من عقيدة تصبح أصح وما من حقيقة تغدو أصدق بالصراخ والحماس ولا هي تسمو بتصنع فوق مجال كينونتها الذاتية عبر عنف الدعاية، بل إن عقيدة ما ينتقص قدرها حين تضطهد أناساً لا ترضيهم نظريتها.
يقول زفايغ أنه دائما حيث الإنسان أو الشعب معبأ تماماً بالتعصب لنظرية وحيدة، لا يبقى مجال للتسامح والتفاهم المتبادل.
وفق زفايغ رسخت الكالفينية في البلدان التي سيطرت عليها مواصفات المواطن بإمتياز المتمثلة في الخادم الأمين والمتواضع المثابر الذي ينضوي في إطار الجماعة، وهو الموظف الفاضل والإنسان المتوسط النموذجي، ويستطرد زفايغ ويقول بحق أثبت ماكس فيبر في دراسته عن الرأسمالية أن ما من عنصر كان مساعداً ممهداً للحركة الصناعية مثل العقيدة الكالفينية القائمة على الطاعة المطلقة لأنها ربت الأجيال بدءاً من المدرسة بالأسلوب الديني للجماعة القائم على التساوي بين الجميع وعلى التجاوب الآلي.
وفي اغرب التحولات يقول زفايغ إنطلقت فكرة الحرية السياسية مباشرة من النظام الكالفيني الذي أراد بصرامة الحد من الحرية الفردية، بل إن هولندا وإنجلترا كرومويل والولايات المتحدة التي كانت أولى حقول انتشاره وتأثيره، هي التي أعطت الليبرالية وفكرة الدولة الديمقراطية أرحب مدى، وبرضا تام، من الروح البيوريتانية انبثقت واحدة من أهم وثائق العصر الحديث أي بيان استقلال الولايات المتحدة الأمريكية الذي بدوره أثر بحسم في الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان، أما الإنقلاب الأكثر غرابة وبه التقاء طرفي النقيض، فتمثل في أن تلك الدول بالذات التي من المفترض أن تكون فكرة اللاتسامح تغلغلت فيها، هي التي أصبحت بطريقة مذهلة أولى الدول الأوربية التي أطلقت العنان للتسامح بالضبط حيث كانت عقيدة كافن قانوناً.
لكن التاريخ كما يصف زفايغ مد وجزر على الدوام وفي حالة صعود وهبوط، لا حق ثابتاً في كل العصور فلا ينتزع، ولا حرية مضمونة فتبقى في منأى عن العنف، مؤكداً أنه دائماً ما ستواجه الإنسانية معارضة ضد كل تقدم، وستغدو كل البديهيات موضع تساؤل متجدد، وما إن بدأنا نشعر بالحرية كعادة يومية ولم تعد من الممتلكات المقدسة، حتى انطلقت من ظلمات الغرائز إرادة غامضة تماماً تريد إغتصابها.
وفي آخر جملة له في الكتاب يسطر “ستيفان زفايغ” هذه الكلمات التي ربما تختصر الكثير وتقول الكثير مما حاول أن يوصله في صفحات الكتاب الـ٢١٧، فيقول “عبثاً يعتقد أصحاب السلطة أنهم سيطروا على الفكر الحر إن هم كمموا شافهه، ذلك أن ضميراً جديداً يولد مع كل مولود جديد، ودائماً سيتذكر أحدهم الواجب الذي يمليه عليه ضميره، أن يستعيد الكفاح القديم لصالح حقوق الإنسان والإنسانية غير القابلة للتنازل عنها، دائماً سينهض نظير ضد نظير كالفن لكي يدافع عن سيادة واستقلال الآراء ضد جبروت العنف.