
منذ أن وصلت للولايات المتحدة في التاسع عشر من يناير 2017 أي قبل يوم واحد من تنصيب ترامب رئيساً لأمريكا وأنا لا أتابع الا الشأن الأمريكي لا لأني بالضرورة خبير أو متخصص بقدر ماهو الفضاء الذي أصبحت أعيشه كل يوم، فكل ما يحيطني يتأثر بما يدور في السياسة الأمريكية الوطنية والمحلية، كل ما أقرأه أو أسمعه من أراء السياسيين أراه منعكسا في الشارع والحي ومع الأصدقاء والمعارف الذين أخالطهم في حياتي الخاصة وفي عملي، فأمريكا كبلد ونظام لم يعد ترفاً أتسلى بالحديث عن تجاذباته بل جزء أصيل من حياتي اليومية.
عندما أتيت كان أمامي إختبار صعب، فهل أتعامل مع هذا العالم السياسي الغريب عن ما تعودت عليه من أسس فكرية من خلال المتابعة والتدقيق فيما يقال او يقرر او يحدث، أم أحاول أن افهم أولا هذا النظام بتفاصيلة وتعقيداته قبل أن اشرع في محاولة فهم وتفسير ما يجري، وقد وصلت لقناعة راسخة بأنه يتحتم علي اولا من أجل فهم هذا النظام وتركيباته ان اعمل على فك طلاسمه التي تتكون من التاريخ والدستور والخليط الإجتماعي والنفسي لمجتمع كل ما فيه مختلف عن العالم الذي أتيت منه.
يحزنني كثير عندما أقرأ بعض الأراء التي تحكم على أي بلد من منظور النقل والتأثر برأي جهة أو إنسان آخر، ذلك الإسلوب الذي لا يستخدم العقل الذاتي في بناء الأراء وهو ذات العقل الذي لا يبذل جهدا أصلا في محاولة الفهم والتحليل بعيدا عن العاطفة، فتجد الأحكام تطلق بسرعة البرق ودون أي إستناد شخصي أو معرفي سوى ما قيل وما يردده البعض كالببغاء.
و لكن رغم حزني على تلك الحالة إلا أني افهمها، فقد عشت كذلك لسنوات طويلة تجربة التلقين وعدم المجادلة، خوفا من العقاب في حين وفي حين آخر رهبة من أن أُبعد عن محيط كنت أعتقد أن لا قيمة لي سوى بكوني جزء منه، ولكن رغم أني تمكنت ربما بفعل بعضا مما في حمضي النووي من مشاكسة أن أنتقل من زاوية المتلقي السلبي إلا مستوى المتلقي الإيجابي، إلا أني لازلت أجد صعوبة في التعامل مع العقلية التي لازالت مبنية على نظرية النحن والهم، تلك العقلية التي تقول “إن لم تكن معي فأنت حتماً ضدي”، وكأن منطقة الإختلاف لابد لها أن تكون منطقة خلاف وتضاد.
في السياسة الأمريكية هناك العديد من الأمور التي لا أتفق معها، فعلى سبيل المثال لا الحصر، يبقى الرئيس ترامب من وجهة نظري رجل بالمجمل يسئ للنسيج الداخلي والخارجي لأمريكا والعالم رغم بعض قراراته الصحيحة التي تصب في مصلحة دول أجد نفسي متعاطفاً معها، وهو حكم بنيته بعد معايشتي ومتابعتي اليومية لانعاكسات إدارته منذ اللحظة التي أصبح فيها رئيسا، هو كالرجل الطبيعي القوي الذي لديه بعضاً من الإختلال الكيميائي في الأعصاب، فإن واظب على أخذ الدواء سيتعامل مع يومه ومع محيطه بالشكل اللائق الذي يرضي الجميع وإن لم يتفقوا معه، ولكن إن فاق ذات صباح وفاته تناول الدواء فقد يكون وبالا على كل من يتصل أو لا يتواصل معه من أصدقائه أو خصومه، فينقلب حال البلاد ومعه أحوال العباد والعالم.
الدستور هنا هو من يحكم، وليس الرئيس أو الكونغرس أو المحكمة العليا، الحكم هنا لراي الشعب و ليس لرأي السياسي أو القاضي أو رجل الأعمال، نعم هؤلاء لهم تأثيرهم و بيدهم تحريك الأمور بالإتجاه الذي يريدون بالحق أحيانا وبالتحايل في مريات أخرى، إلا أن المواطن العادي كجاري له الحق في أن يقول رايه في الشارع بكل صراحة دون أن يتجرأ أحد ويوقفه أو يمنعه من الحديث، وله الحق في أن يعترض عبر القنوات التي كفلها له الدستور ليمنع قرار أو يلغي آخر، لذلك يبقى نبض الشارع هو أهم المقاييس التي أجدها تنير لي الطريق للنظر لتلك التجاذبات التي بدأت بها حديثي وإعتمادها احد اهم الاسس للبحث والتمحيص من أجل الوصول لرأي قد يكون الأقرب للصواب.
ميزة التجربة هنا أنها أعادتني لصفوف الدراسة ليس بالمدارس و الجامعات بل في دهاليز المكتبات وبطون الكتب، فإستبدلت هوايات كرة القدم والبلوت بمرافعات قضايا المحكمة العليا وتحليلات قوانين الدستور ومراسلات الإدارات الأمريكية السابقة والحالية الداخلية منها والخارجية، أما المذكرات الشخصية لقيادات هذا البلد السياسية والفكرية فأصبحت كقهوة الصباح أو ربما قهوة المساء، تفتح ذهني على عقلية رجال ونساء إستخدموا العقل والحيلة في تحقيق أهداف جلها لوطنهم وبعضها دون شك شخصي.
هذا البلد ليس مثالي كما قد يتوهم البعض، لكن الحكم عليه بسطحية من خلال الصورة النمطية التي بناها و يبنيها في مخيلتنا الإعلام أو من خلال تصريحات أصحاب القرار ومن خلفهم ماكيناتهم الدعائية يبقى أقصر طريق للوصول للراي المشوش، قد يكون في بعض مكونات ذلك الرأي أمراً صحيحاً ولكنه بالمجمع يسقط أمام المخالف صاحب الحجة القوية، فالأبيض والأسود ليسا اللونين الوحيدين في عالم السياسة المتلونة، ومن يتصور أنها سياسة فيها الشيطان وفيها الملاك فقط فهو واهم، فقد تجد الشيطان هنا يلبس الأبيض ويصلي في الكنيسه خاشعاً، وقد تجد الملاك يقتل في الخفاء ويتحرش بالقاصرات و إن لبس هو الآخر الأبيض وتوشح بالطهارة، فأيهما في نظرك الشيطان وأيهما الملاك ؟