لم أكن من الأطفال الذين يحبون القراءة أو مطالعة الكتب، بل كنت أفضل قضاء الوقت مع الأصدقاء في لعب الكرة، مثل معظم الأطفال حول العالم، يمارسون مشاغباتهم ويعيشون في اللحظة، لم أكن مميز أو مهتم بتنمية العقل، فالطاقة الحركية التي يزرعها الله في الصغر تكون في غالب الأحوال هي المحفز للتعبير عن الذات أكثر من الطاقة الذهنية التي تبدأ في الظهور والنمو مع مرور الوقت.
منذ بضع أسابيع كتبت مقالاً هنا تحدث فيه عن السبب الذي يدعونا للكتابة، ولم أكن أعلم ان ذلك المقال سيدفعني للتفكير في سؤال ربما كان واجباً على أن أتناوله قبل ذلك وهو (لماذا نقرأ)، وربما البعض من الجيل الشاب سيكون رده أننا لا نقرأ في هذا الزمان الذي أصبحت المعلومة تقدم لنا على طبق من ذهب عبر التلفاز ومنصات التواصل وبكل وسائل الإعلام الأخرى، وإن كنت أنت أيها القارئ الكريم من القلة من الذين يقولون بذلك فهل لك أن تجاوبني لماذا وصلت وما زلت تواصل قراءة هذه الكلمات التي تنساب أمامك على هذه الصفحة؟
حسناً لعل سؤالي هذا مجرد إستفزاز لك في دفعك للإستمرار في القراءة أو ربما إستفزاز مني لدفعك للتوقف، وفي كلا الحالتين فالقرار لك، ولكن بصرف النظر ان كنت ستستمر أو ستتوقف فأنا سأتحدث هنا عن بعض الأسباب التي أكتشفت أنها محفزات للقراءة من تجربتي الخاصة ومن تجاورب الآخرين، دون ان اهمل القول أن في كل واحد منا ربما شئ من كل ما سأقول.
صحيح أن كل واحد منا يقرأ التغريدات و البوستات وربما المواقع الإلكترونية واللوحات الإعلانية، ومنا حتماً من يقرأ الكتب و الدراسات والمحتوى الأكثر عمقاً، إلا أن في كل مرة نقرأ محتوى علينا أن نحاول ان نعرف لماذا نحن نقرأ هذا المحتوى، ليس ذلك فحسب بل علينا أن ننوع أسباب القراءة بحيث يمكن لنا أن نزيد من الفائدة بدلا من ان نصبح كمن يأكل وجبات الهمبرغر كل يوم معتقداً أنه بذلك يشبع جوعه ويفيد جسده.
كثير من ما نقرأ في هذه الزمن السريع يكون للتسلية، فمجلة من هنا و حساب من هناك نتابع ونقرأ ما يكتب لنمضي به بعض الوقت في الترفيه وربما زرع إبتسامه أو ضحكة، ونحن نقرأ كذلك لنستعرض أمام أقراننا بما قرأنا، فنردد ما تعلمناه و نحاول أن نظهر أمامهم بأننا ملمون ليُنظر لنا بتميز وأعجاب يشبع غرورنا الانساني.
نحن نقرأ لنتعلم من ما قرأنا ونطبقه في حياتنا، فمن كتب التخصص الجامعي لنصائح الحياة السعيدة وكيف نجهز طبق المولوخية كلها أوجه تكون القراءة السبب الرئيسي لنستطيع أن نناور و نمضي بحياتنا اليومية بالشكل الذي نريد، كما أننا نقرأ لنكتشف ماهي الحقيقة وأين هي الحقيقة فيما يقال لنا، فالإنسان السلبي هو ذاك الذي يأخذ كل شئ و أي شئ بعتباره حقيقة مسلم بها، أما هؤلاء الذين تحركهم نزعة الفضول ورغبة معرفة الأمور كما هي فهو لن يجد طريقة أفضل من القراءة والمقارنة و البحث لإكتشاف مواطن تلك الحقيقة الغائبة.
وفي عالم متغير ومتقلب ومتصارع فإننا نقرأ لنكتشف ما يدور حولنا، ولماذا يحدث ما يحدث ولماذا وصلنا لما وصلنا إليه و كيف لنا أن نخرج من المأزق أو نخطوا صعوداً نحو الأفضل، فلا يصح أن نعيش في عالم دون أن نكون مدركين ما يدور من حولنا، فالإنسان الحي هو الذي يعلم مكانه من ما يدور حوله، وكيف له أن يكون عنصر فاعل في إحداث التغيير الإيجابي في حياته في المقام الأول وبعد ذلك يحاول أن يحدث الفارق في محيطه.
نحن نقرأ ونقرأ و نقرأ من أجل أن نصل لتلك المرحلة التي بإمكاننا أن نفهم فيها الأفكار المجردة، نحاول أن نحاكي الفلاسفة في تصوراتهم و توصيفاتهم لما تعنيه الأخلاق مثلاً دون الحاجة للإعتماد على إسقاطات الأمثلة لنفهم الفكرة، ننمي عقولنا ونشبعها بحثاً، فالطريق للمجرد يتطلب عقلية تفكر بتجرد وهذا منالٌ صعب، سعيد ومحظوظٌ من يصل إليه.
نحن نقرأ لنؤكد من خلال فهم عقولنا ما تؤمن به قلوبنا، فالإيمان الذي لا يسنده إقتناع عقلي يسهل جداً تغييره إن هو وضع في بيئة ذات أبعاد أخلاقية او فكرية مختلفة، فالمؤمن بقناعة العقل مثله مثل العقل المدرك المؤمن هما الأشخاص الذين يقفون أمام تحديات الأفكار كالصخور التي لا تنحتها عوامل تعرية الزمان وتقلبات الأفئدة والمحيط بكل تأثيراته.
نحن نقرأ لتجنب أخطاء الماضي، فنقرأ التاريخ لنتعلم و لنتدبر ولنبتعد عن تكرار ما قام به أسلافنا من أخطاء ومن مآسي ونكسات، وفي الوقت ذاته نتعلم من هذا التاريخ التجارب التي ثبت الدهر أنها كانت لحظات مضيئة في تاريخ البشرية فنحاول أن نستلهم منها و نعيد تدويرها بالشكل الذي يناسب هذا الزمان، لنخلق بها لحظاتنا المضيئة.
قال ديكارت “أنا أفكر إذاً أنا موجود” وفي قول آخر “أنا أشك”، نعم الإنسان الذي لا يشك عليه أن يعيد النظر في مدى قدرته على التفكير النقدي والحر، فالله خلق الإنسان حر في إختيار قراره والقرار يعني الإختيار بين إحتمالين أو أكثر وبالتالي فإن الإنسان قبل اختياره سيمر في لحظة تردد وشك في أي من الخيارات هو الصحيح، وعليه فالشك أساس في التفكير الإنساني، وهنا يأتي دور القراءة، فنحن بحكم شكنا نقرأ لنتغلب على هذا الشك من خلال تمكننا من أدوات العقل في تفسير كل ما نحتاج أن نفهمه من أجل أن نصل في نهاية المطاف لاتخاذ القرار الصحيح، فبلا قراءة لن تعرف أنك إنسان تشك لأنك قمت بتسليم قرارك للغير، ومن غير القراءة لن تتمكن من التغلب على شكوكك لأنك لا تملك أداوت تفكيك الشك والوصول للجواب الصحيح.
نحن نقرأ لنتبين ولنكشف كيف يتم تضليلنا، فإن لم تطلع على الرأي الآخر لن تعرف أن الرأي الذي يصلك هو الرأي الصحيح، فتعيش حياتك مضلل معتقدا أنك تمضي في المسار الصحيح، ونحن نقرأ لنكتسب مهارات جديدة ولنمتلك أدوات الفهم ولنحفظ ونردد ما نحفظ و لكي نتحدى ونختبر قناعاتنا وأخيراً وليس آخر لنستوعب من نحن، فالقراءة وما نقرأة يمكن أن ترسلم لنا صورة حقيقة عن ماهيتنا الإنسانية، فحقيقة الإنسان ليست في إسمه و أصله او دينه بل في كيف يفكر وفي ماذا يفكر وما يجعله يفكر.
نحن نقرأ لملايين الأسباب، كل إنسان منا له أسبابه، وما ذكرته في الأسطر السابقة ليست إلا أمثله بسيطة ربما يتفق حولها الكثيرون وقد يختلف حولها آخرون، كل واحد منا له تجاربه وأسبابه، ولكن بعد أن وصلت معي أيها القارئ الكريم لهذه الكلمات الآخيرة وبعد أن تنهي آخر حرف من هذا المقال أقترح عليك أن تسأل نفسك “لماذا أنا أقرأ” فقد تكتشف حقيقة جديدة عن نفسك.