يا إلهي .. كم هي تخيفهم كلمة “الحرية” ! كيف يخاف الإنسان من حقه الإنساني.
لا أعلم وربما أعلم السبب الذي يدفع البعض للانتفاض غضباً وتوجساً وهجوماً في كل مرة يتطرق الحديث عن الحرية، فتبدأ الأصوات تنعتها بأنها دعوة للانحلال الأخلاقي والفوضى العارمة والانقلاب على كل المبادئ والمُثل التي شكلت وتشكل المجتمعات، فنجد الصغير المغيب مثله مثل الكبير يرفض اي شئ لا يفهمه أو يفهمه بالشكل الذي لقن به أو كبر عليه، فصورة الحرية في تلك العقلية ترى سلامة محيطها وفق بناء محدد له كما هو الحال في البناء الأولي للأسرة، حيث جبل على الاعتقاد بأن الأبناء دائماً قُصّر وان تمتعهم بحرية قرارهم تعني بالضرورة زوال هيبة الأب ونشوب حتمي لصراع واختلاف بين أفراد الأسرة وكسر المثُل التي يؤمن بها أفرادها.
الفرضية التي ينطلق منها هؤلاء تعتقد أن الأبناء قاصرون بالضرورة، وهذه في حد ذاته أكبر الأخطاء، فالأبناء مثلهم مثل كل أفراد المجتمع يكبرون ويكتسبون في طريقهم الخبرة، ويصبح كل ابن من أبناء الأسرة أباً لديه مسئوليات وواجبات وقادر على أن يقارع والده في الحجة، وهنا حديثنا ليس عن الاحترام لرب الأسرة، فالمجادلة والنقاش والمشاركة في إتخاذ القرار لا تقلل من احترامه، حيث ان الأبناء اكتسبوا الخبرة بالعمل والتجربة والعمر وهي الأمور التي أهلتهم للتمتع بحقهم في حرية اتخاذ قراراتهم، والرأي الذي يقول بأن الابن يجب أن لا يقارع أباه حتى عندما يكبر هو رأي ناتج عن العقلية التي ترفض الاعتراف بحق الابن في أن يكون حراً في إتخاذ القرار بذرائع تتبدل وفق الظروف والمعطيات ولكنها تبقى في كل حالاتها رافضة.
خذ مثلا الأسرة التي يصبح فيها الأبناء مساهمين في مصاريف البيت، هل تعتقد بأن الأب يعاملهم بذات الطريقة التي يعامل فيها الأبناء الصغار أو الأحفاد الذين يعتمدون عليه في كل شئ، بطبيعة الحال الجواب هو لا، فتعامله مع الأبناء الذين يساهمون في مسؤوليات المنزل يختلف عن غيرهم، فهم اكتسبوا حق أن يكون لهم صوت ويصبح لهم كذلك حرية اتخاذ القرارات في الأمور التي تسيّر المنزل، فهم في نهاية المطاف من يقوم بضمان استمرار واستقرار الأسرة من حيث المعيشة والأمان ومساهمون فعليون لم يكن ليكون لهم هذا الدور لولا أنهم على قدر كبير من القدرة والدراية على إتخاذ القرار الصحيح الذي به تمكنوا من جني المال والمشاركة به.
الحرية التي يخاف منها البعض ليست نابعة في صلبها بسبب الخوف على الأخلاق والسلم المجتمعي كما يعتقدون أو على إستقرار الأسرة كما المثال آنف الذكر، هم اقتنعوا بذلك بسبب التوجيه الذي يخفي قصداً السبب الأعمق والذي يتعلق في أساسه بالطريقة التي يجب أن يرون فيها البناء المجتمعي، فالبناء الهرمي للمجتمع هو الذي يجب أن يتكون منه حيث الرأس الآمر والقاعدة المنفذة، والحرية في هذه التركيبة تعد تهديداً، فمع الحرية تنشأ الأسئلة وبالتالي المساءلة والرقابة والتدخل في القرار، وقد قال جون ستوارت مل “على أني لا أقصد أن يكون الغرض الأساسي من إطلاق الحرية الفكرية هو تكوين كبار المفكرين والفلاسفة، بل تمكين الطبقة الوسطى من تنمية مداركهم وانتهاج آراء مستقلة” فهو أدرك في هذه المقولة أن لا حرية حقيقية دون إدراك الطبقة الوسطى لأهميتها لهم.
يشير “أريك فروم” في كتابه “الخوف من الحرية” أن من يقاوم تطبيق الحرية ومن يفضّل الخضوع للعبودية يتصفان بذات الجذر المرضي، فما بين السادية المتلذذة بإخضاع الضعيف والمازوخية المتلذذة بالخضوع للقوي مشترك هو اعتماد كل طرف على الآخر للشعور بالكينونة والوجود.
في علاقة المسيطِر بالمسيطَر عليه تصبح الحرية هي الخطر الأكبر، لذلك يصبح تقديم الإجابات المعلبة حول الحرية الطريقة الوحيدة لشيطنتها والتخويف منها بإعتبارها تمس الخاضع في القيم التي يؤمن بها وعلى حياته التي إعتاد عليها، وليس لانها تتيح له القدرة على التفكير خارج الصندوق و مساءلة الواقع، وهنا يقول برتراند راسل “ليس من المرغوب أن يفكر الناس العاديين بأنفسهم، لأنه يصعب التحكم بالناس الذين يفكرون بأنفسهم، والذين بتفكيرهم هذا سيسببون الكثير من الإشكاليات، فقط الحراس -بلغة أفلاطون- يفكرون، اما البقية فيطيعون ويتبعون الحراس كقطيع الغنم”.
البعض اليوم أصبح يصدّْر حججاً جديدة في شيطنة الحرية والأنظمة التي تطبقها وتؤمن بها كأساس لنظامها، كالذي حدث في إنتخابات أمريكا في ٢٠٢٠ ومقولة أن الحريات سُلبت من رئيس وان الديمقراطية أنتجت لنا تلك المشاهد المخزية للحرية في ٦ يناير، والرد على هذه الحجج بسيط، فالدولة والنظام لم تمنع الرئيس عن الحديث عبر منصات التواصل بل هي المنصات التي تقدم الخدمة والتي يوقع المشترك فيها على اتفاقية الشروط التي تنص على عدم الدعوة للعنف، كما أن على سبيل المثال من حق أي صحيفة أن تتبنى اي موقف سياسي أو إجتماعي وترفض نشر أي رأي مخالف لها، وهذا لا علاقة له بحرية التعبير او بحرية الصحافة، فمن منع الرئيس في هذه الحجة المردود عليها ليس النظام الحكومي بل شركات لها توجهاتها وشروطها وهو حق أصيل في تركيبة الدول الحرة، وكما أن هناك من يرفض النشر هناك منصات وصحف أخرى متاحة للجميع تقبل نشر الرأي الآخر، فالنظام ببساطة لا يفرض احتكاراً للرأي كالدول التي تنعدم فيها الحرية.
أما في الجانب المتعلق بأحداث الكونغرس في ٦ يناير ٢٠٢١، فالجواب اسهل، فلولا أن الديمقراطية والبناء الحر يعمل بشكل صحيح في أمريكا لربما نجح الرئيس السابق في الانقلاب على الدستور واختطاف رئاسة خسرها بفارق سبعة ملايين صوت، فتثبيت الرئيس الفائز وبإشراف نائب الرئيس الخاسر وأعضاء حزبه هو دليل على أن النظام يعمل وقادر على ضمان ديمومة حرياته ودستوره رغم الغوغاء.
الحرية في الأنظمة الحرة لا تعني الدعوة للعنف ولا تعني أن تسلب الأغلبية حقوق الأقلية ولا يعني أن تحتكر الآراء او تفرض أنماط حياتية بعينها او تروج للانحلال الأخلاقي، الحرية تتوقف عندما تستخدم كوسيلة لسلب الآخرين حرياتهم، والقانون هو الذي يضبط الصدام والاختلاف الذي لا بد منه في بيئة حرة، أما المساس بالثوابت والأخلاق التي يتحجج بها البعض لشيطنة الحرية فذلك يحدده قانون منصوص وواضح يحدد كذلك ماهيته وفق ما اتفق عليه رأي الأغلبية بناء على عقد اجتماعي ركيزته المشاركة في القرارات والمسئوليات والواجبات، وقد قال مونتسكيو “الحرية هي الحق في أن تعمل ما يبيحه القانون”، ونقد عقائد الآخرين بسلمية يجب أن يكون مكفولاً في البيئة الحرة، فلولا هذا النقد لما تقدمت الدول ولما أوجدت الابتكارات والاكتشافات ولبقيت مجتمعات اليوم على ما كانت عليه في الماضي.
أقوى وأخطر أنواع الحرية هي حرية التفكير، والخوف على الأخلاق ليس إلا ذريعة لتسويق نبذها لدى العامة، فعندما نفكر بحرية نشك وعندما نشك نسأل وعندما نسأل يصبح الواقع بكل تفصيلاته محل إعادة نظر، والخاسر الأكبر في هذه الحالة هو من يشيطن الحرية ويسعى على بقاء الحال على حالة، فلا يريد تفكير ولا تشكيك ولا سؤال ولا اعادة نظر في واقع قد لا يخدم مصالحه الضيقة.
العالم الذي نعيش فيه اليوم بأديانه ودوله وانظمته ليس الا انعكاس لأفكار حرة ظهرت في الماضي خارج السياق المتبع في حينه، حوربت بشراسة من دعاة الجمود، إلا أنها تمكنت من الصمود فقامت بتغيير العالم، فعدو الحرية ومن يخاف منها في الغالب يجهل حركة التاريخ فيبقى متقوقع في فقاعته اللحظية فلا يرى الحركة خارجها.
[…] ما يحدث في تونس بالمختصر والوقت ما زال مبكراً للحكم النهائي لا يمكن النظر له إلا باعتباره مؤشر خطر لواقع سياسي قد يحول البلاد التي تمر بمرحلة مخاض ديمقراطي من مشروعها الوطني في المشاركة الشعبية إلى العودة به لحكم الأقلية التي ستصبح بفعل ما يقوله لنا التاريخ إلى طبقة حاكمة مستبدة، فعلى الرغم من أن ما عاشته تونس مؤخراً من تقلبات وإخفاقات في العمل الحكومي الأمر الذي أثر سلبياً كما هو معروف على حياة المواطن إلا أن اعتبار واقع الحكم التشاركي هو السبب فيما آلت إليه البلاد يعيدنا مجدداً لحجة البعض بأن سبب تخلف الشعوب هي الديمقراطية وهو رأي قمت بتفنيده في مقال سابق (إقرأه هنا). […]
أخ محمد
لقد أوضحت في مقالي أن العنف ليس حرية والتخابر ليس حرية بل يحاسب عليهما القانون، لا أعتقد اني أحتاج ان أكرر مجدداً ما أوضحته بجلاء في المقال.
الإعلام اليساري كما تصفه لا يعتبر الدعوة للعنف و القتل حرية، معاداة هؤلاء العلنية للحكم في بلادهم وفق دساتيرهم اعتبروه حرية تعبير لأنه بقي في إطار الرأي المحمي دستورياً، أما عندما حولوا آرائهم للدعوة لأعمال العنف تحول رأيهم من رأي يتمتع بالحماية كحق إلى دعوة للإجرام يحاسب عليها القانون.
الحرية عزيزي واضحة المعالم (أنت حر في أن تقول أي شئ، ما دمت لا تدعو للعنف).
دمت بخير
مع احترامي ليست الحريه بمعناها المطلق فمثلا عندما كانت الأحداث في مصر ومايسمى بالربيع العربي كانت المنصات نفسها لاتحجب شيء لا من يدعو للعنف او من يدعو لشيء يمس بالامن القومي للدوله العربيه وعندما نقول الخوف من الحرية . هل يمكنك القول ان من يدعو لقتل نفس او قتل رجل امن وينشر الفتاوى للمتطرفين يحق له التحدث احد هؤلاء الاشخاص موجود في لندن فقط للتوضيح في نظر الاعلام اليساري الغربي كان يعتبرهم اصحاب راي ولهم الحريه وبعد ذلك صارو ارهابيين في نظر الغرب كذلك من يحاول التخابر مع جهات اجنبيه والمس بالامن القومي لبلد ما لايمكن السكوت امريكا مثلا تريد سنودن للمحاكمة ليه ماهي حريه راي فالحريه نسبيه عندما لاتدعو على الاعتداء على انسان او ممتلكات عامه او خاصه ولاتمس بامن الوطن لك الحريه في الانتقاد