من فرانكفورت لدوسيلدورف .. رحلة التحرر من جلد الذات

لم تكن زيارتي الأولى لألمانيا هذه و التي تجولت فيها خلال أربعة أيام مدينتي فرانكفورت و دوسيلدورف، بل ربما هي السادسة أو السابعة التي أجوبها مكتشفا أرجاء أعظم دول أوروبا من حيث الإنتاج الإنساني في ماضيه البعيد و القريب، هذه الأرض التي خرج منها بسمارك و أينشتاين و
فاغنر و إستطاعت أن تحتل العالم القديم قبل أن تفقد كل شئ من تحالف ثبت أنه أقوى من حلم رجل واحد عرفناه بأدولف هتلر.
قررت أنا و زوجتي ميساء أن نتجول أرجاء أوروبا متنقلين بين مدنها الكبيرة و الصغيرة ، لنكتشف أوجها لم نعهدها من قبل و لنرَ في أزقتها بعضا من التميز الذي أنتج لنا دولا إستطاعت أن تتسيد العالم في مجالات العلم و الأدب و الفكر الإنساني، ربما نكتشف ايضا اسباب تقدمهم و تأخرنا نحن ، أو ربما لماذا لم نتقدم مثلهم في عالم تعلمنا منه منذ طفولتنا أن من جد وجد و من زرع حصد فهل ضاع الحصاد في منتصف الطريق أم أننا لم نزرع زرعا من الأساس.
رحلتي هذه فيها كثير من محاولة التمرد على حالة جلد الذات التي تحكمت فيني من جراء الشعور بإخفاق العالم العربي الذي أعيش فيه، فالدول التي نشاركها الدين و اللغة ، تثور على نفسها ثم تهدأ ثم تثور مجددا في حالة من هيجان إنساني لا نعرف إن كان آخره سيخدم الشقيق و سينهض به أم هو أولى خطوات الدمار القادم، وهي رحلة في صلبها كذلك هروب من المنبع الذي منه أصبت بفيروس جلد الذات الذي تحكم بحالي و تفشى في نظرتي للحياة.
سبق أن تحدثت عن مدينة فرانكفورت بالكثير من النقد و وصفتها بأنها مدينة لا تستحق أن يبقى فيها الزائر أكثر من يوم بل و ربما المرور بها ترانزيت، و رأيي ذاك لم يكن إرتجاليا بل كان ناتجا عن تجارب عديدة ، إلا أنني و بعد أن زرتها مع زوجتي العزيزة تغيرت نظرتي للمدينة بشكل كبير حتى أصبحت اقارنها بمدينة برلين أكثر المدن الألمانية التي بهرتني و لي فيها ذكريات جميلة.
نعم قد يقول البعض أن هذا الشعور ناتج عن أن الرفقة في السفر دائما تحدث الفرق و أن السفر مع من تحب يجعل المحيط كله جميلا، و هذا بطبيعة الحال وصف دقيق لا أعارضه أو أناقشه، إلا أن إلى جانب هذا يكمن محرك داخلي غير مرتبط بالمحيط القريب أو البعيد بل هو ناتج عن التراكم الذاتي و مزيجه الذي تشكل كما قلت في البداية من حالة القلق التي نعيشها في محيطنا العربي، فالنقد الذاتي يتجلى بشكل أوضح عندما تصبح المقارنة هي الآلية التي تتحرك فيها حواسنا و القناة التي من خلالها نستنج بها المواقف ، فيصبح عقلنا الباطن يرى كل شئ بعيدا عن ما إعتدنا عليه جميلا و يرى معظم ما عشنا عليه و سيطر علينا على أنه قبيحا و مستهجنا، فالمدن لديها قدرة على أن تخرج منا تناقضاتنا و مشاعرنا التي لا تبنى بالضرورة على منطق العقلاء بل على منطق المجانين ،و لكن لما العجب !؟ فحال محيطنا العربي اليوم هو أقرب للجنون من كونه عالما ينهض بالعقل و يسير على صراط البناء و التقدم.
كل شئ في هذه البلاد جميل بإستثناء العنجهية التي تطبع بها الإنسان الإلماني، فلا تجد إبتسامة من نادل و يجب عليك أن لا تأمل كثيرا في أن يساعدك أحدهم في الشارع إذا ما كنت ترغب في معرفة إتجاه مكان ما، و في محطة القطارات و المطاعم ستجد الجميع يتحدث معك بشكل يشعرك بأنك أقل إنسانية منهم في تصرف يعيدني مجددا لحالنا في العالم العربي و في دولنا الخليجية و في بلادي تحديدا السعودية و الكيفية التي يتعامل فيها المواطن صاحب الجواز الأخضر بالمقيم العربي منه و الأسيوي، فأشعر و أنا في أرجاء هذه البلاد العظيمة بأني شقيق لذلك العامل المسكين الذي ترك بلاده ليجد قوت عيشه في بلادي و أنا الذي أتيت لألمانيا لأبحث عن قوت راحتي و إستجمامي في طبيعة و بلاد كل ما فيها رائع.
في فرانكفورت حيث المال و التجارة و الرجال الأنيقين يجوبون أزقة المدينة بحثا عن صفقات بين زوار المدينة من تجار العالم ستجد أن وسط المدينة التجاري يتقمص دور الفخامة في أوجه الناس، فالكل هناك يأتي ليبحث عن شئ أو يقدم شيئا ، والغجر بآلاتهم و معزوفاتهم يتفاوضون هم كذلك مع متعهدي الحفلات بهدف إحياء أجواء الحانات و المطاعم التي تزخر بها المدينة من أجل اليورو الذي قدسه أهل المدينة فنصبوا له مجسم عملاق في وسط مدينتهم.
الجسور التي تتوسد نهر الراين لها قصصها التاريخية و لها غراميات العشاق التي توشحة آلف الأقفال التي تعلقت بثنايا ذلك التكوين الحديدي الذي لم يكن يعلم أنه سيكون مسار ينقل الإنسان و أحلامه و أفكاره و مخاوفه من ضفه لآخرى لعله في ذلك يغيير مسار حياة من إنشان حلم بذلك.
في دوسيلدورف كل شئ يشبه ألمانيا، إلا المحيط و التكوينات الجغرافية التي بدورها أخذت شكلها الخاص، فهي المكان الذي ستبقى مدينته القديمة و المقاهي و المطاعم التي إفترشت خدود نهر الراين علامات فارقة للأبد و رؤية فلسفية حفرها الزمان في مخيلة العبد الفقير إلى الله.
تماثيل المدينة البرونزية تقول لكل من يجوب أزقة المدينة أنها باقية هناك لتحكي لهم روايات من ماضي لن يعود، و ميناء الإعلام ببرجه الشاهق سيبقى المكان الذي يذكرك كلما تناسيت أن المانيا رغم البرودة التي تلف أرواح أهلها ستبقى عظيمة بإنجازاتها الحديثة تماما كما هو حال عظمة ما ورثته من أجيال سابقة غيرت منجزاتهم وجه التاريخ.
لن أتذكر كثيرا شوارعها الفخمة بكل ما تحويه من محلات دور الأزياء الشهيرة أو حتى مدينتها القديمة بكل ما تحويه من مطاعم و بشر و سياح بقدر ما سأتذكر حدائق المدينة الغناء بكل ما حوته من طبيعة خلابه و طيور صديقة تعيد لك الشعور بحب الإنسان للطبيعة دون ان تشعر، و تذكرك بكم نحن بعيدون عن الإستمتاع بأبسط ما تقدمه لنا الطبيعة من متع، فالمدنية التي إستوردناها دون تمحيص أنتجت لنا شعور بأن الحياة كلها ماديات و أمور ملموسه بينما الجمال الحقيقي لهذا الحياة هي المنتجات التي تنتجها لنا الأرض بعذريتها، و ربما لو إقتنعنا بذلك سنتوقف عن جلد ذاتنا في سبيل آملنا في حياة ليست هي الحياة التي تسعدنا.


أرسلها عبر الفيس بوك
انشرها عبر تويتر

عزيزي زائر المدونة أشكرك على تلطفك بالمحافظة على النقاش الهادئ و المتزن و الهادف للإستفادة و الإفادة. تحياتي ... ياسر

3 responses to “من فرانكفورت لدوسيلدورف .. رحلة التحرر من جلد الذات”

  1. manicure

    Aw, this was an incredibly nice post. Finding the time
    and actual effort to make a superb article… but what can I say…
    I put things off a whole lot and don’t manage to get anything done.

  2. bakeer

    كتابات رائعة وسيناريو نتج عن تفكير راقي

  3. عائشة

    يوميات رئيس عربى

    دخل الرئيس الى المكتب الرئاسي بخطى مسرعة ورأى السكرتير الخاص بانتظاره قائلا فخامة الرئيس صباح الخير اجابه الرئيس على عجل بلا فخامة بلا بطيخ اعطيني تقريرك بسرعة حول ضحايا الفيضان . اجابه السكرتيرعدد الضحايا الدقيق غير معروف حاليا ولكننا نقدر العدد به (100 )شخص من القتلى و(1000) من الجرحى و (20000 ) الف متشرديين من بيوتهم .

    عبس الرئيس وقال لاحول ولاقوه الا بالله واين تم اسكان المشردين؟ اجابه السكرتير في خيام نصبت في العراء احمر وجه الرئيس غضبا وقال عراء ؟اي عراء؟ واي خيام انت معتوه ؟ لو كانوا اهلك كنت رضيت يسكنوا في خيمة ؟ وانت مرتاح ودفيان في بيتك.

    ارتجف السكرتير وقال ولكن ماذا نفعل؟ اين تامر ان نسكنهم ؟ اجابه الرئبس ماهي اقرب ثكنة عسكرية للموقع ؟ اعطوا الضباط و الجنود اجازه وقوموا باسكان العائلات مؤقتا هناك حتى يتم اتخاذ التدابير اللازمة لتأمين مأوى لهم .

    ارتبك السكرتير وقال ولكن فخامة الرئيس بيوت الضباط لايمكن اعطاءها للمشردين لانريدهم ان يزعلوا.
    نظر الرئيس الى سكرتيره شزرا وقال بيوت الضباط سهلة لو اقتضى الامر فاسكنهم في القصر الجمهوري عيب عليكم والله لو لم يكن هذا القصر يرمز الى هيبة الدولة لحولته الى ملجا للايتام. احسن ماهو فاضي بهالشكل بلامعنى

    ثم سكت برهة وكانه تذكر شيئا وقال ذكرتني ماذا فعلت بشان سيارات القصرالفارهة؟ هل قمت باستبدالها بسيارات عادية كما امرتك ؟ اجاب السكرتير ولكن يافخامة الرئيس لايجوز انت رئيس الدولة وتركب سيارة عادية مثل عامة الشعب ؟ اجابه الرئيس صارخا انا من عامة الشعب من تظنني ياهذا ؟ ماانا الاموظف عند هذا الشعب اخذ راتبي منهم وواجبي خدمتهم وانت تريدني ان اتعالى عليهم ؟ …

    بـاقى المقال ومزيد من المقالات من (عالم مجنون بقلم الدكتور محسن الصفار ) بالرابط التالى

    http://www.ouregypt.us/Bsafar/main.html

اترك تعليقاً