ككل صباح منذ أن وصلت لهذه المدينة دخلت المقهى في تمام الساعة الثامنة والنصف، أناس تقف في طابور تنتظر طلبها و آخرون اصطفوا ينتظرون دورهم لطلب مشروبهم الصباحي المفضل، وقفت معهم و بدأت في تحريك شاشة الجوال كما يفعل كل البشر في هذا الزمن الإلكتروني، لم أتحمل طويلا زخم الأخبار السلبية و التعليقات العدائية والإفراط في الكذب الموجه، فأغلق الجوال و بدأت في الالتفاف يميناً و يساراً، أشخاص من الوان و أعمار و أعراق مختلفة، لا جديد فذلك ما اعتدت أن أراه في كل مقاهي أمريكا، وبعد انتظار لبضع دقائق كانت قهوتي جاهزة، أخذتها بكل حماسة وهممت بالجلوس، و إذ بسيدة أربعينية لم المحها من قبل تجلس على طاولتها وامامها جهاز الكتروني بمفاتيح عريضة وبقربها جلس على الأرض كلبها الأسود الكبير، فهمت فوراً أن السيدة كفيفة رغم أن تعبير وجهها وحركات جسدها وطريقة التقاطها لكوب مشروبها الساخن كلها لم توحي بذلك، مررت بجانبها مبتسماً لكلبها صاحب العيون البريئة، موجهاً له كلمة يفهمها كل الكلاب أنها تحية بشرية واستلطاف إنساني.
جلست على الكنبة المريحة التي إعتدت الجلوس عليها في كل مرة أتي فيه لهذا المقهى الواقع على الشارع الرئيس وسط البلدة القديمة، وضعت كوب القهوة على الطاولة الصغيرة بجانبي وأخرجت من شنطتي الكتاب الذي أنسني في الأيام الخمسة الماضية، فتحته عند الصفحة ١٩١ و بدأت في القراءة، مرت عشرون دقيقة وإذ بي أنهي الفصل، وقبل أن أبدأ في الفصل الجديد قررت أن آخذ دقيقة راحة ممارساً عادة الجالسين في المقاهي، فأتلفت يميناً و يساراً بحثاً عن لا شئ وربما عن كل شئ، قربي جلس رجل ستيني يعكف مندمجاً في عمل على حاسوبه الشخصي، بينما خلفي على جهة اليمين جلس عاشقان يتبادلان نظرات الغرام، في حين جلس خلفي على جهة اليسار شاب غارق في سماع الموسيقى عبر جهاز جواله يحدق في اللاشئ، في حين بقيت السيدة الكفيفة في مكانها تحتل محيطها بهيبة ووقار لافت، بينما إستمر قلب المقهى يعجل في الداخلين إليه والخارجين منه بأكوابهم الورقية و أكياس الحلوة.
فتحت الصحفة ٢٠٢ و بدأت في قراءة الفصل الجديد، يقول الكاتب مخاطباً القراء، دعونا نجري سوياً تجربة تأمل ذاتية، فليتخيل كل واحد منكم الآن حالة إنسانية تواجه صعوبة ما، ليس مهماً ماهية هذه الصعوبة فقط يجب أن تكون صعوبة تراها أنت أنها معاناة أو ربما تحدي شخصي صعب من وجهة نظرك، و لتفكر في كل التفاصيل التي يمكن أن يواجهها الشخص الذي يعيش تلك الحالة، بعد ذلك ضع نفسك عزيزي القارئ وتخيل أنك تعيش ذات الحالة، توقفت بعد أن أنهيت هذه الجملة و بدأت في استرجاع المشاهد التي تعودت عليها في الأخبار، أطفال وشيوخ مناطق الحروب، الفقر حول العالم، الأمراض، الظلم، و بدأت في محاولتي التأملية مسيرتي في عملية إختيار ما أعتقد أنه الظرف الأصعب الذي يمكن أن أعيشه.
كنت حائراً في الاختيار أفكر في كل إتجاه، وأثناء ذلك لمح طرف عيني خيال أو ربما جسد يقترب مني، لم أبالي و تجاهلته لكي لا أقطع حبل الأفكار، بدأ الخيال يقرب أكثر فأكثر فرفعت عيني عن الكتاب ورأسي مجبراً نحو الطيف، وإذا بالسيدة الكفيفة تخطو بعصاها المُرشد نحوي بلا توقف، كان واضحاً أنها أخطأت الطريق الصحيح لمسار الخروج من المقهى، العصا لم يخطرها بأنها تتجه نحو جسد و الكلب الذي من الواضح أنه مدرب للمرافقة لكنه يبدو في حينه أنه كان يتأمل أو يفكر في وجبة الغداء مشى خلفها ولم يتحرك بطريقة يبلغ فيها صاحبته أنها تسير بالطريق الخاطئ، ودون تفكير مني وجدت نفسي أنهض من مكاني محدثاً السيدة بصوت خافت بأنه الطريق الأسلم للخروج هو من الإاتجاه الآخر و سألتها إن كانت تريد مني أي معونة في ارشادتها نحو الخروج، ابتسمت إبتسامه أقل ما يقال عنها أنها أجمل من إشراقة الشمس في ذلك الصباح البارد وقالت بنصف ضحكة (ما أغباني) متعاملة مع الموقف بكل بساطة و إرتياح، مردفة (لا عليك يا سيدي شكراً لك على كل حال).
لم أفكر لحظتها في العودة للجلوس، بتلقائية هممت أمشي بجانبها متجهاً نحو باب الخروج متحدثاً معها عن كلبها اللطيف، فتبعت صوتي دون أي تعثر، فتحت لها الباب و بإبتسامتها المتفائلة ودعتني بجملة معتادة ولكن غير متوقعة في تلك الأثناء، قالت: (أراك لاحقاً يا سيدي).
عدت لمكاني و أمسكت كتابي من جديد ومكثت لثواني أفكر في ما جرى، قُطع حبل أفكاري مجدداً ولكن هذه المرة كان الرجل الستيني الذي جلس بجانبي، قال متهكماً على حاله (والواحد منا يشتكي كل يوم معتقداً أن يومه كان الاسوأ في حياته)، ابتسمت له و هززت رأسي موافقاً، عدت للتأمل ولكن هذه المرة في مغزى الفصل الذي كنت قد بدأت في قراءته قبل دقائق، قلت لنفسي لم يعد لي حاجة الآن لأكمل قراءة هذا الفصل، وضعت الفاصل المزركش في بداية الفصل التالي وأغلقت الكتاب وأمسكت كوب القهوة، ودون أن ارتشف منه حدقت صامتاً في اللاشئ.