حينما إكتشفت شئ إسمه “الرقابة” !

عام ١٩٩٠ كانت بدايتي مع الصحافة، عندما أتيحت لي فرصة الالتحاق بصحيفة الرياض عبر الأستاذ يوسف الكويليت الذي كان يعمل كاتباً لافتتاحيتها اليومية، حيث علم من والدي رحمه الله أني أرغب في الانخراط في العمل الصحفي بعد أن التحقت قبل ذلك ببعض أشهر في دراسة الإعلام والصحافة في جامعة الملك سعود.

حديثي هنا لن يكون عن خلفيات إلتحاقي وما واجهته في حينه من تحديات وفرص، سأترك الحديث عن ذلك في مناسبة أخرى و لكني سأتحدث اليوم عن موضوع الرقابة، ذلك المعطل الأهم في عالم الإعلام و الصحافة والمحدد الصارم في ماذا نكتب وفي ماذا لا نكتب.

ربما لا يعلم كثر أن إبن خالتي “فينشينسو” وهو صحفي مخضرم في الصحافة الإيطالية كان من أهم الذين من خلالهم أحببت الصحافة، فقد كان دائماً يخبرني عن ما كان يكتبه في مجالات مختلفة منها الخفيفة مثل السياحة ومنها الثقيلة من قبيل السياسة الداخلية الإيطالية والتجاذبات الحزبية المعروفة في السياسة الإيطالية، إلا أن في كل أحاديثنا لم أسمع منه أبداً عن شئ إسمه “رقابة”، فالصحافة في إيطالية مثال للنقد بلا حدود و تناول كل شئ دون محاذير لدرجة قد يعتقد البعض أن في هذه البلاد لا يوجد شئ إسمه محرم رغم شعبه المسيحي المحافظ بطبعه وتاريخه الذي مر من الفاشية للإشتراكية المسيحية إلى الليبرالية إلى الفاشية الحديثة.

نعود للحديث عن تجربتي الأولى مع الرقابة، حيث كانت الصدمة الأولى مع هذا المفهوم الهلامي عندما كتبت مقال حول فكرة بسيطة كنت أعيشها كشاب وعاشها كل فرد في مجتمع تعود على ما نسميه “التسيلك” أو الوعد دون النية بالوفاء، فقد كنت دائماً اتأزم من والدي رحمه الله عندما كان في بعض المرات يرد علي طلباتي بجملة “إن شاء الله” وهي العبارة التي كنت أفهمها بأنها تعني “يصير خير” فلم أكن أفهم إن كان قد وافق على طلبي أم هو رافض !

قررت أن أكتب مقال أناقش الموضوع، حيث تساءلت عن السبب الذي يدعو البعض للتهرب من الرد المباشر بالموافقة أو الرفض، لماذا نفضل ترك الأمور في الهواء دون إجابة واضحة، فلا يعلم السائل إن كان سيحصل على ما يريد أم أن عليه البحث عن مسار بديل، حال من التعليق لم أكن أفهمه.

في حينه أذكر أن الأستاذ يوسف قال لي بأن المقال غير مناسب فقد يتهمني القارئ بالقدرية، قلت القدرية ؟ وماهي هي القدرية، قال إنه فكر فلسفي شاذ قد يعاقب عليه القانون، في تلك اللحظة كان موعدي مع أول وأد لمحاولة التعبير عن أمر كنت أبحث عن إجابته، تلك ببساطة كانت تجربتي الأولى في الرقابة، ولكنها كانت في الخفاء دون أضرار أو إحتمالات قد لا يحمد يعقباها كما شعرت في موقفي الثاني.

أثناء تغطيتي لحرب تحرير الكويت عام ١٩٩١ وبعد موقف مقال “إن شاء الله” ببعض الأشهر، عملت مع هيئة الإذاعة و التلفزيون الإيطالية المعروفة بالـ”RAI” بحكم إجادتي للغة الإيطالية، وفي أحد المؤتمرات الصحفية مع العقيد أحمد الربيعان الناطق الرسمي لقوات التحالف المشتركة، تحدث العقيد عن معلومات تتعلق بعدد الطائرات العراقية التي تمكنت قوات التحالف من إسقاطها في ذلك اليوم، وقد لفت انتباهي أن العدد الذي ذكره لم يكن يتوافق مع العدد الذي ذكره في الإفادة الصحفية اليومية الناطق الأمريكي الذي سبقه بنصف ساعة، فسألت السؤال الطبيعي، سعادة العقيد هل القوات الأمريكية والسعودية يعملون سوياً في غرفة عمليات مشتركة، فأجاب بالتأكيد، فاستطرت عن سبب اختلاف الأرقام بين إفادته وإفادة الناطق العسكري الأمريكي.

جواب العقيد ليس المهم في الأمر فقد كان كعادته وبفضل تمكنه الفائق، تحايل على الإجابة بدبلوماسية ولم يقدم إجابة على السؤال، إلا أنه في اليوم التالي أتاني رقيب من إحدى الجهات والتي أعتقد أنها وزارة الإعلام وإسمه “شاكر” وقال لي بأن هناك توجيه بأن لا يسأل أي صحفي سعودي أي سؤال من قبيل السؤال الذي سألت عنه في أمس، في الحقيقة ارتبكت وقلت له هل سؤالي سبب لي مشكلة، رد بإبتسامه لا مشكلة بإذن الله مستطرداً ولكن أرجو الإلتزام بالتوجيه.

لم أكن أحضر المؤتمرات الصحفية باعتباري أغطيها للصحافة السعودية بل للإعلام الإيطالي، إلا أني كسعودي كان علي أن أكون صحفي سعودي، مما يعني أن مديري الإيطالي كان سيقّيم عملي وفق تلك الأسئلة المعتادة والتي ربما تكون مجهزة من قبل وغالباً لن تغني ولن تسمن جوع المعرفة الإعلامية للصحافة العالمية.

بعد ذلك الموقف وفيما تبقى من أيام الحرب إستخدمت إستراتيجية مختلفة، فتوقفت عن رفع يدي لطرح الأسئلة أثناء المؤتمرات الصحفية المتلفز، واتبعت طريقة مختلفة وذلك باللحاق بالعقيد أحمد بعد نهاية إفادته الصحفية اليومية وأثناء توجهه خارج القاعة اقوم بتوجيه سؤالي له بعيداً عن رقابة شاكر وإشكاليات التوجيه.

قصصي مع الرقابة كثيرة ولكن هذين الموقفين هما أولى المواقف التي واجهتها كصحفي شاب في بداية عمله في مهنة المتاعب و التي لا يؤمن كثر في كونها سلطة رابعة ولا حتى في كونها سلطة سيزر.


أرسلها عبر الفيس بوك
انشرها عبر تويتر

عزيزي زائر المدونة أشكرك على تلطفك بالمحافظة على النقاش الهادئ و المتزن و الهادف للإستفادة و الإفادة. تحياتي ... ياسر

اترك تعليقاً