إستكمالاً لسلسلة المقالات الخاصة بموضوع الاستبدادية و الطغيان السياسي والتي يمكن العودة لها من خلال الضغط (هنا) يجدر بنا الحديث بشكل مركز عن أهم رموز هذا الطغيان في العصر الحديث أي الديكتاتور النازي (ادولف هتلر) والذي كُتبت عنه و عن نازيته العديد من الكتب و الكثير جداً من الدراسات والأفلام الوثائقية والدرامية والتي حاولت أن تقييم مرحلته وتبين مقدار الإستبداد و الطغيان السياسي الذي اتصفت فيه بلاده تحت حكمه و سيطرة أجهزته الأمنية والعسكرية العنصرية.
وقد إطلعت على كم هائل منها إلا أن هناك كتاب واحد من ضمنها لفت انتباهي وأوصلني للاقتناع بأنه ربما أفضل كتاب شخّص هتلر ومرحلته بشكل دقيق، فقد أخذ القارئ من مرحلة ما قبل ولادته مروراً بطفولته وشبابه حتى وصوله للسلطة وإنهيار مشروعه النازي عام ١٩٤٥، الكتاب الذي يحمل عنوان (صعود وسقوط الرايخ الثالث – The Rise and Fall of the Third Reich) والذي ألفه الكاتب الأمريكي (وليام لورانس شايرر) يعد في تقديري افضل ما كتب في هذا الموضوع، وقد ترجمه للغة العربية في مجلدين (جرجيس فتح الله) بإسم (قيام وسقوط الرايخ الثالث: نهاية دكتاتور).
في هذا المقال سأتطرق لبعض ملامح المانيا في السياسة الداخلية في عهد هتلر دون أن أتطرق للجوانب الخاصة بالحرب، فقد كُتب حول ذلك الكثير، وسأعتمد في هذا على الإستشهاد بالنص الأصلي للكتاب باللغة الإنجليزية، معتمداً في ذلك على ترجمتي بتصرف لهذه الملامح و التي أتصور أنها ترسم بعض الصورة الضرورية لفهم عقلية هذا الطاغية ونظامه الاستبدادي الذي أخذ بلاده والعالم لحدود الإنهيار وغيّر بجنونه وعنصريته وجه السياسة والجغرافيا في العالم.
يقول (وليام لورانس شايرر) أن الكلمة المنطوقة كانت القوة التي بدأت دائمًا بها أعظم الموجات الدينية والسياسية في التاريخ المتداول ومنذ زمن سحيق، و أن هتلر مثل معظم الثوريين لم يتمكنوا من الازدهار سياسياً و شعبياً إلا بتمكنه من هذه الميزة الخطابية وتمكنه من أستغلال أوقات الأزمات و الصعاب، فالثوريون يراهنون في البداية على حالة الجماهير العاطلة عن العمل والمتأزمة إقتصادية والجائعة و اليائسة ولا ينتهون بعد أن تصبح الدولة في حالة هيجان حربي و سخط شعبي على العدو الخارجي و الداخلي
وقد جيّر هتلر ذلك الغضب الجماهيري من الحالة المزرية التي كان يعيشها الألماني إقتصادياً و معيشياً وعمل على الحصول على كسب الأصوات في الإنتخابات بتقديم نفسه بإعتباره المنقذ الوحيد من مأزق البلاد الكارثي الذي تمر فيه.
يقول المؤلف عن جدلية الديمقراطية و الدكتاتورية كما كان يراها هتلر في أنه كان يعتقد أن إحدى مزايا الديكتاتورية على الديمقراطية هي أن السياسات غير الشعبية التي وعدت بنتائج مهمة يمكن اتباعها في نهاية المطاف بشكل مؤقت دون مشاكل داخلية، وأنه يبدو أن الغالبية العظمى من الألمان لم يمانعون في أن حريتهم الشخصية قد سُلبت، وأن الكثير من ثقافتهم قد تم تدميرها واستبدالها ببربرية طائشة، أو أن حياتهم وعملهم قد أصبحا صارمين إلى درجة لم يسبق لها مثيل من قبل حتى من قبل شعب اعتاد لأجيال عديدة على قدر كبير من التنظيم الذاتي.
ومن المؤكد وفق وصف المؤلف أن الخلفية التي اعتمد عليها هتلر في ضبط الشعور العام وتحييد أي إعتراض أو منافسة يكمن في الرعب الذي فرضه جهاز الجستابو القمعي على الشعب حتى أصبح الشعور العام في البلاد والدول التي قام باحتلالها هتلر هو الخوف من معسكرات الاعتقال لأولئك الذين يخرجون عن الخط المعتمد أو كانوا شيوعيين أو اشتراكيين أو ليبراليين أو مسالمين، أو من كانوا يهودًا أو عجر.
وكما يقول ميلتون مايير في كتابه (They Thought They Were Free) فإن (وليام لورانس شايرر) ينحو بذات الإتجاه في وصف الشعب الألماني الذي إعتقد أنه حر رغم خضوعه لحكم النظام الإستبدادي و إنعدام الحريات التي كان يتمتع فيها من قبل، فيقول واصفاً الشعب الألماني انه لا يبدو أن شعب هذا البلد شعر بأنه قد تم إخضاعه وإحباطه من قبل ديكتاتورية وحشية وعديمة الضمير، بل على العكس من ذلك، فقد دعموه بحماس حقيقي وبطريقة ما اشعرتهم بأمل جديد وثقة جديدة وإيمان مذهل بمستقبل بلادهم.
كان هتلر في خطة بناء مشروعه التوسعي كما يقول المؤلف يقوم بتصفية الماضي بكل احباطاته وخيباته بشكل سريع وبخطوات متعاقبة ومدروسة، كان يحرر ألمانيا من أغلال معاهدة فرساي التي وثقت هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى، الأمر الذي أربك الحلفاء المنتصرين في الحرب العالمية الأولى وجعل ألمانيا قوية عسكريًا مرة أخرى.
حالة ألمانيا تحت حكم هتلر كانت هي الحالة التي أرادها معظم الألمان، وكانوا على استعداد لتقديم التضحيات التي طلبها منهم زعيمهم الديكتاتور للحصول عليها، ففقدان الحرية الشخصية، واتباع نظام غذائي متقشف (البنادق قبل الزبدة) والعمل الجاد كلها أمور قبلها الألمان في سبيل إعادة عزة ومجد المانيا الذي ضاع مع توقيع البلاد لمعاهدة فيرساي.
بحلول خريف عام ١٩٣٦ يقول المؤلف تم حل مشكلة البطالة إلى حد كبير وحصل الجميع تقريبًا على وظيفة مرة أخرى، وقد نقل المؤلف عبارة توضح المعنى عن أحد العمال الذين حُرموا من حقوقهم النقابية حيث قال أنه على الأقل في عهد هتلر لم يكن هناك مزيد من الحرية في الجوع.
في حرب هتلر على قيمة الحرية الفردية مثله مثل كل الأنظمة الاستبدادية و السلطوية فإن قمع قيمة الفرد والطموح الذاتي تعد من أهم مقومات النجاح في التفرد النازي في الحكم فـ(المصلحة المشتركة قبل الذات) كان شعارًا نازيًا شائعًا في تلك الأيام، على الرغم من أن العديد من قادة الحزب وعلى رأسهم (يوهان غورينغ) مؤسس الجستابو والمقرب جداِ لهتلر في القيادة النازية كان يثري نفسه سراً وكانت أرباح أعماله التجارية تتزايد، إلا أنه لم يكن هناك شك وفق رأي المؤلف من أن الجماهير الألمانية قد ضُللت حتى اقتنعت من أن (الاشتراكية القومية) الجديدة التي يمثلها الحزب النازي تضع رفاهية المجتمع فوق المكاسب الشخصية للفرد.
وعن دور رجال الدين في تمكين الطغاة يتحدث المؤلف عن أنه في ربيع عام ١٩٣٨ اتخذ المطران (ماراهرينز) الخطوة الأخيرة المفصلية بإصدار أوامره لجميع القساوسة في أبرشيته بأداء قسم الولاء الشخصي للفوهرر هتلر، بعدها بوقت قصير أقسمت الغالبية العظمى من رجال الدين البروتستانت اليمين ولاءاً لهتلر وبالتالي ألزموا أنفسهم قانونيا وأخلاقيا بطاعة أوامر الديكتاتور.
لكي يكون المرء محررًا في الرايخ الثالث كما يقول المؤلف يجب أن يكون في المقام الأول (نظيفًا) سياسيًا أي موالي للنظام النازي ونظيفاً عرقيًا أي آري الأصل، فقد نص قانون صحافة الرايخ على سبيل المثال الصادر في ٤ أكتوبر ١٩٣٣ والذي جعل الصحافة (مهنة عامة) ينظمها القانون على أن جميع المحررين يجب أن يكونوا حاصلين على الجنسية الألمانية وأن يكونوا من أصول آرية وغير متزوجين من يهود، كما أمرت المادة ١٤ من قانون الصحافة المحررين (بإبعاد أي شيء يكون مضللًا للجمهور بأي شكل من الأشكال، ويمزج بين الأهداف الأنانية وأهداف المجتمع، ويميل إلى إضعاف قوة الرايخ الألماني، ظاهريًا أو باطنياً، او الإرادة المشتركة للشعب الألماني، والدفاع عن ألمانيا وثقافتها واقتصادها، أو يتضمن إهانة لشرف وكرامة ألمانيا، وهو مرسوم لو كان ساري المفعول قبل عام ١٩٣٣ عندما وصل هتلر للسلطة لأدى ذلك إلى قمع كل محرر ومنشور يروج ويدافع عن المنهج النازي في البلاد، وقد أدى هذ المرسوم إلى إغلاق عدد كبير من الصحف والمجلات وطرد عدد كبير أيضاً من الصحفيين الذين لم يكونوا نازيين أو الذين رفضوا أن يصبحوا كذلك، فقد انخفض في السنوات الأربع الأولى من الرايخ الثالث عدد الصحف اليومية من ٣٦٠٧ إلى ٢٦٧١.
وعلى الرغم من انخفاض مبيعات العديد من المطبوعات النازية، إلا أن الصحف اليومية التي يملكها أو يسيطر عليها الحزب أو النازيون الفرديين كانت تستحوذ على ثلثي إجمالي التوزيع اليومي البالغ خمسة وعشرين مليونًا بحلول وقت اندلاع الحرب الثانية، وبالتالي السيطرة على الخطاب العام للشعب الذي إعتقد أنه حر وصاحب قرار، وآمن دون أن يعرف أنه تم غسل دماغه بأن الديكتاتورية هي السبيل الوحيد للعزة و المجد والخلاص والتقدم.