وداعا قطر

بعض الأماكن تبقى محفورة بالذاكرة مهما مر الزمان و تغيرت الملامح، كما أن إنعكاسات الضوء في بعض المساحات تختلف من مكان لآخر، فهناك إنعكاس له صوت المساء و آخر لا يشعرك بأي معنى سوى أنك ربما قد تكون لازلت باقي
على قيد الحياة.
و هناك مدن تتلون بأطياف السماء رغم الهدوء و مدن تزقزق العصافير حرة رغم تلبد الأجواء و أخرى لها رائحة الشموخ و طهارة الطفولة، و جمال الروح و معنى الوفاء.
سنتان أو نحوها مرت منذ أن قدمت للدوحة للعمل في منظمة خليجية دبلوماسية صناعية إستشارية، أشارك مع مجموعة رائعة من إخوة و أخوات خليجيين و عرب مهمة النهوض بتطلعات الدول الخليجية لمستقبل صناعي إقتصادي أكثر نموا و إستقرارا، و لأكون كما غيري من شباب الخليج سفراء لدولنا في هذه المنظمة التي أسست منذ أربعة عقود كأول تعاون خليجي حقيقي مؤسسي كان حينها ربما النواة التي من بعدها تأسس مجلس التعاون و باقي المنظمات و المجموعات التعاونية الخليجية المختلفة.
ففي ذلك الفندق المتاخم للمطار شاهدت القذافي يخطب لساعات حول الجرذان و لزمته الشهيرة (زنقة زنقة) و لم أكن قد أكملت حينها الشهر منذ قدومي و في ذهني ألف سؤال و سؤال حول المدينة التي إبتكرت “الجزيرة” و جعلت منها بعبعا إعلاميا و ألما مزعجا لكثير من الأنظمة السياسية العربية، كنت أجلس في المساء و لم أعي بعد ملامح المدينة لأفكر بعمق عن طريقي في هذا المكان الجميل و الهادئ و الذي جل ما فيها يقول لك أن المستقبل أجمل، حتى بان الصباح و إتضح بأن المكان له من الدفئ ما يجعل من سعودي المزاج مثلي ضيفا مرحبا به من أهل هذا البلد الطيبين و أمكنته الوفية.
تمر الأيام و يمر العمر فتفنى السنين و لا تفنى الذكريات، فمن جلساتي الطويلة في مقاهي سيتي سنتر و فيلاجيو و اللاجونا و عشرات الأفلام السينمائية و المهرجانات الثقافية التي حضرت، و لقاءات الأصدقاء في سوق واقف و الحي الثقافي “كتارا” و لوبيهات الريتز و الشيراتون و مجاملات الجيران في مصاعد برجي “المتعرج” السكني، تبقى كل الصور و المعاني التي تجلت هناك محفورة في مخيلتي المتخمة بمشاعر الحب و التقدير لهم جميعا، فبدونهم و بدونها لما كان للعمر من ذكريات و لا ما أصبح لليوم معنى للغد، فكل يوم كنت فيه هنا كان هنا بالنسبة لي علاجا للحنان و الشوق الذي كان يعتصر قلبي لأرض الوطن و الوطن.
و لكن كما أن لكل قصة بداية فإن النهايات السعيدة هي النتيجة الطبيعية لتقاطع القلب المحب بالمكان الطيب بـأهلها، فقد حان موعد الوداع و لا أقول الفراق فمن تنبت على رموش عينه أنوار قطر المحبة و دوحة الخليج لا يمكن له إلا أن يعود سريعا ليحتضن بين جنباته شواطئ هذه المدينة الحالمة و نخيل كورنيشه الناعس و رائحة القهوة و الزعفران و طعم الكرك و الهيل.
أعود لمحبوبتي الرياض بعد أن قررت أن تكون لي بداية جديدة في عمل جديد في مجال هو ذاته المجال الذي إعتاد الناس رؤيتي فيه مميزا كما يقولون، فالإعلام و التعامل معه هو التخصص الذي وجدت نفسي فيه منذ أن وعيت على أن الإنسان يجب أن يتخصص و يعمل لكي يقتات و يعيش في عالم الواقع، و سأعود لكي أعود في وسط المكان الذي هو بيتي و أهلي و جميع تناقضات وطني الجميل بزحمة طرقاته السريعة و صوت أمكنته الصاخبة و دقات ساعاته التي أصبحت تسابق النور و تتجاوزه أحيانا في نهاره و ليله.
منذ أن غادرت السعودية كان دائما ينتابني سؤال محير يحاول أن يستخرج مني إجابة عن موعد عودتي لمدينتي و بلادي، و لم أستطع أبدا أن أجد الإجابة لذلك، ربما لكوني لم أعي حينها أني بالفعل غادرت المكان و أن الزمان الذي وضعني في مكان آخر جميل هو واقع حقيقي، فقد بدت لي في كثير من الأحيان أن تواجدي في هذه الدوحة لم يكن أكثر من حلم جميل و واقع إفتراضي سرعان ما سيصبح ذكرى من الماضي و هو تماما ما حصل.
لن أشكر المدينة لأن المدن لا يمكن أن تقدم لك إلا بما تتيحه أنت لها و بقدر ما تفتح قلبك، فأشكر القدر الذي ألهمني بأن أفتح قلبي لهذه الأرض الجميلة و التي أعطتني سنتان من أجمل سنوات العمل، و أدعو الله لقطر و أهلها و حكامها أن يكتب لهم التوفيق في كل مساعيهم و أن تصل هذه الدولة الصغيرة حجما و الكبيره قدرا و مكانة و إمكانيات إلى المكانة التي تستحقها بين الأمم و أن تكون الأخوة و المحبة التي ربطت الشعبين السعودي و القطري هي العنوان الأجمل لما يجب أن تكون عليه الأخوة الخليجية الحقة.
فوداعا قطر و إلى لقاء قريب بإذن الله نجتمع فيه على الأخوة و المحبة.
أقول قولي هذا و أشكر الله على نعمه و على كرمه و على فضله، و أستغفره و أتوب إليه إنه تواب رحيم.


أرسلها عبر الفيس بوك
انشرها عبر تويتر

عزيزي زائر المدونة أشكرك على تلطفك بالمحافظة على النقاش الهادئ و المتزن و الهادف للإستفادة و الإفادة. تحياتي ... ياسر

One response to “وداعا قطر”

  1. Randy Balwin

    I just want to tell you that I’m beginner to blogs and truly liked you’re page. Most likely I’m likely to bookmark your site . You definitely have outstanding posts. Thanks a lot for sharing with us your webpage.

اترك تعليقاً