يثار الحديث كثيراً في الآونة الأخيرة حول الفاشية وعودتها كمنهج سياسي خطير بات يسيطر على العديد من الدول حول العالم، خصوصاً بعد وصول الرئيس السابق دونالد ترامب والذي أُتهم من قبل خصومه بأنه يسعى لتحويل البلاد إلى دولة فاشية يمينة ينتهي بها الحال بإنتخابه رئيساً مدى الحياة، وما أحداث ٦ يناير إلا مؤشر لرغبته الحثيثة على الإنقلاب على الدستور كما يقولون.
ولكن بعيداً عن ترامب ومبالغات خصومه وباقي الدول التي أصبحت مكونات الفاشية سمة لافتة في منهج الحكم فيها، يبقى مهماً هنا أن نسلط الضوء على ماهية هذا المنهج الفاشي الذي يتحدثون عنه، على أني لن أعتمد على إعادة تدوير ما كتب بالعربية في المصادر المتاحة بل سأعتمد على بعض القراءات الأنجليزية من هنا وهناك والتي تناولت الموضوع بعيداً عن الشخصنة أو الإسقاط السياسي الذي يهدف الى شيطنة نظام بعينه أو رئيس معين.
سأحاول أن أرسم صورة محددة لماهية الفاشية ومن هو الفاشي وكيف يفكر وكيف يتحرك ويؤثر في محيطه، وكيف تمكن الفاشي من تحقيق نجاحاته في الماضي والذي سطرت لنا كتب التاريخ فصوله عند كل من هتلر و موسوليني وباقي فاشيي التاريخ الحديث.
يقول وليم شيرر عن هتلر في كتابه الشهير “صعود وسقوط الرايخ الثالث “مثله مثل معظم الثوريين العظماء لم يتمك من البروز إلا في أوقات الأزمات، في البداية عندما كانت الجماهير عاطلة عن العمل وجائعة ويائسة، وبعد ذلك عندما كانت منشغلة بسكرة الحرب” مستطرداً حديثه عن موقف الألمان من هتلر بالقول “يبدو أن الغالبية العظمى من الألمان لم يمانعون في أن حريتهم الشخصية قد سلبت، وأن الكثير من ثقافتهم قد تم تدميرها واستبدالها ببربرية طائشة، أو أن حياتهم وعملهم قد أصبحا صارمين إلى درجة لم يسبق لها مثيل من قبل”.
النظام الفاشي بطبيعته يقوم على منهج رئيسي واضح هو فرض التصنيف والتقسيم بين الـ”نحن” الفاشيون الوطنيون و الـ”هم” المعادون الخائنون، وضمن هذا المنهج تندرج كل الأفكار و الأعمال التي تكوّن الفكر الفاشي وعقلية الإنسان الفاشي في تعامله مع نفسه ومع محيطه ومع العالم.
تراهن الفاشية على تفعيل عدد من الاستراتيجيات التي تركز على استنهاض ماضي الأمة الإسطوري والتركيز على الدعاية الموجهة والعمل على مناهضة أى فكر مخالف للمنهج الفاشي أو المعارض له، والإيمان المطلق بالفكرة الهرمية للمجتمع و قدسية التضحية من أجل الأرض والقائد وأهمية تطبيق القانون والنظام الصارم من أجل السلم الوطني، إضافة للتركيز على العاطفة ومناجاة الشعور الشخصي حيال كل ما يخص الوطن وضرورة العمل على تفكيك مكونات المساواة في المجتمع وخلق فكرة العدو الخارجي لخلق لحمة داخلية مع عدم إغفال التركيز على التمييز العنصري والطائفي ضد مكونات محددة ضمن التكوين الداخلي للوطن وتصنيفها كعدو الداخل.
فعندما نتحدث عن التمييز ضد مكونات محدد في الداخل وهي من أكبر مخاطر الفاشية فإنها تقوم بذلك من خلال تجريد تلك الشرائح المجتمعية من حقوقها الإنسانية إما عبر استبعادها وتهميشها الممنهج وبالتالي خلق حالة من عدم التعاطف الشعبي معها وتبرير معاملتها بلا إنسانية، كل ذلك في أجواء من قمع لحرياتها أو السجن الجماعي أو الطرد وطبعاً في الحالات الأكثر تطرفاً القتل أو الإبادة الجماعية.
سجلت لنا كتب التاريخ والأحداث المعاصرة العديد من قصص الإبادات الجماعية في عدد من الدول نذكر منها فقط لتوضيح الصورة ما حدث في ألمانيا النازية ورواندا وميانمار المعاصرة، حيث تعرض ضحايا التطهير العرقي هناك لهجمات إعلامية ممنهجة ولشيطنة من القيادات السياسية وقادة الرأي العام لأشهر أو لسنوات قبل أن يتحول النظام الفاشي القائم إلى إستخدام الإبادة جماعية لتصفية هؤلاء المختلفين.
يبرر السياسيون الفاشيون أفكارهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية من خلال تحطيم الشعور العام لما يعتبر الناس ارث الوطن، وذلك من خلال خلق ماضي أسطوري يمكنهم من دعم رؤيتهم للحاضر، فيعيدون كتابة الفهم المشترك للواقع من خلال تحريف لغة المثل العليا وذلك من خلال الدعاية وتعزيز مناهضة الفكر ومهاجمة المؤسسات والمراجع الثقافية والتعليمية والدينية التي قد تتحدى أفكارهم، حيث بإستطاعاتهم بفعل ذلك في نهاية المطاف أن يخلقوا سياسة فاشية غير حقيقية ولكنها واقعية، فتحل نظريات المؤامرة والأخبار المزيفة محل الجدل المنطقي في الفضاء الواقعي بين الناس.
الأسرة الأبوية هي أحد المثل العليا التي يعمل السياسيون الفاشيون على خلقها في المجتمع أو العودة إليها، ففي المجتمع الفاشي يكون زعيم الأمة مشابهاً للأب في الأسرة الأبوية التقليدية، وسلطة الأب تنبع من قوته والقوة في نظر الفاشي هي القيمة السلطوية الرئيسية القادرة والتي تستحق أن تكون المهيمنة.
إضفاء الطابع الأسطوري على الوطن كما ذكرنا من أهم مواصفات الأنظمة الفاشية وذلك بهدف تسليح عاطفة الشعب للحنين لماضي تم انتقائه بعناية، حيث يتم انتقاء ما يستنهض هذا الحنين ويجعله وسيلة لتوحيد الصفوف خلف القائد والنظام الفاشي، وهو تماما ما فعله على سبيل المثال رئيس الوزراء المجري “فيكتور أوربان” عندما استلهم من تجربة المجر في محاربة احتلال الإمبراطورية العثمانية في القرنين السادس عشر والسابع عشر ليكون النبراس الذي يبني عليه خطابه وسياسته في تقييد الهجرة لبلاده من خلال إعادة الدور التاريخي للمجر كمدافعة عن أوروبا المسيحية من هجمة اللاجئين القادمين من الشرق الأوسط وأفريقيا.
كانت الحركات الفاشية دائما ما تدعي أنه تحارب الفساد عبر الإعلان عن تهم في كثير منها ملفقة أو كاذبه تطال متنفذين أو أشخاص عاديين في وقت ينخرط النظام الفاشي نفسه في ممارسات فاسدة، كما أن كثيراً ما تكون حملات مكافحة الفساد المعلنة تطال قلب الحركات السياسية الفاشية، كل ذلك من أجل أن يبقى الخوف هو الشعور الغالب بين أفراد المجتمع، فتهمة الفساد يمكن أن تطال اي مخالف للنظام الفاشي حتى و إن كان عضواً فاعلاً فيه.
معاداة الحرية يعد من أهم ركائز المنهج الفاشي كما يقول “جايسون ف.ستانلي” في كتابه “كيف تعمل الفاشية How Fascism Works” حيث ترى الفاشية بأن المجتمع ومكوناته المختلفة لا ترقى لأن تحظى بالحرية نظراً لعدم أهليتها أو لان ليس كل المواطنين على القدر ذاته من الوطنية أو النقاء العرقي أو الولاء الفاشي، وهو منطق ينطلق من الفكرة الكلاسيكية للمنهج الفاشي الذي يرى المجتمع مكون من تسلسل هرمي من حيث صفاء القيم بين الأجناس والمكونات البشرية، وهنا نستذكر ما قاله وزير الدعاية النازي “جوزف غوبلز” في محاولته شيطنة الحرية والديمقراطية عندما قال “ستبقى هذه دائماً واحدة من أفضل نكات الديمقراطية، وهي أنها أعطت أعداءها الوسائل التي تم بها تدميرها”.
يمكن فهم فكرة الحرية والديمقراطية في المنهج الفاشي ايضاً في نظرة هتلر والذي اعتبرها غير متوافقة مع الفردية وفق تفسيره، وذلك لأن الحرية والديمقراطية لا تسمح للمواطنين الأفراد بالارتقاء فوق الآخرين في الصراع التنافسي، فالرؤية الفاشية للحرية الفردية تشبه الفكرة الليبرتارية للحقوق الفردية المتمثلة في الحق في المنافسة ولكن ليس بالضرورة في النجاح أو حتى البقاء على قيد الحياة.
تسعى السياسة الفاشية إلى تقويض النقاش والرأي العام من خلال مهاجمة وتقليل قيمة التعليم والخبرة واللغة وحرية التفكير، لأنها تعي جيداً أن النقاش الذكي والمؤثر مستحيل بدون تعليم وبالتالي تنعدم وجهات النظر المختلفة، وعندما يتم تقويض التعليم والإبداع وحرية التفكير والخبرة الإنسانية المتراكمة تبقى فقط القوة والهوية المفروضة، ففي الأيديولوجية الفاشية هناك وجهة نظر شرعية واحدة فقط هي وجهة نظر الأمة المهيمنة أي “الفاشية”.
اعتقد النازيون أن الحركة النسائية كانت جزءًا من مؤامرة يهودية دولية لتخريب الأسرة الألمانية وبالتالي تدمير العرق الألماني، كما هو الحال في روسيا وأوروبا الشرقية التي هاجمت الدراسات الجندرية بإعتبارها جزء من حركة اليمين المتطرف، ومع ذلك فإن السياسة الفاشية تفسح المجال لدراسة الأساطير باعتبارها حقيقة، فوظيفة نظام تعليم في الأيديولوجيا الفاشية يتمثل في تمجيد الماضي الأسطوري ورفع إنجازات قيادات الأمة والتعتيم على وجهات نظر وتاريخ أولئك الذين لا ينتمون للفاشية أو يعارضونها، كما أن في الأنظمة الفاشية المعادية للديمقراطية تتركز وظيفة التعليم في إنتاج مواطنين مطيعين ملزمين بدخول سوق العمل وفق المطلوب دون القدرة على المساومة أو القدرة على المفاضلة.
القادة الفاشيون هم ببساطة “رجال أفعال” لا يؤمنون في مسألة التشاور أو التداول، والزعيم الفاشي قادر على أن يستبدل الحقيقة بالقوة ويكذب حتى النهاية دون عواقب، الأمر الذي يجعلنا نحن غير الفاشيين أمام هذه السياسة الفاشية غير قادرين على تقييم الحجج بمعيار مشترك نفهمه ويفهمه الفاشيون على حد سواء.
تنشر الدعاية الفاشية الخوف بين الناس حول عدد من المسائل التي تمس المواطن العادي مثل الخوف من الزواج العرقي المختلط أو الزواج من الأجانب بذريعة عدم إفساد عرق الأمة الظاهر، أو البحث في الأفكار والأيدلوجيات الآخرى أو طرح الأسئلة التي تتحدى الواقع الراهن، لذلك نجدها تركز مثل هذه الرسائل على المجتمعات التي تقطن خارج المدن الكبيرة والتي يمكن التأثير عليها بشكل أسهل وتخاطب عاداتهم التي في الغالب تتشكك من الغريب والمختلف وتفضل البقاء ضمن إطار حياتها المعتاد.
بإختصار يمكن القول أن الهدف الرئيسي للسياسة الفاشية هو السيطرة على الجمهور، أولئك الذين تسعى إلى الإيقاع بهم في شرك قبضتها الوهمية بهدف الانضمام لنظام يتم فيه إخضاع كل شخص للوهم الجماعي، في حين أن أولئك الذين لم يتم اخضاعهم فإن معسكرات الاعتقال او الموت في إنتظارهم.