أوكرانيا القرم .. ذكرى التاريخ و الحاضر

على متن قارب في البحر الأوسط ( يالطا - اوكرانيا)في عام ١٩٩٩ قررت قضاء إجازتي السنوية في ربوع بلاد “القرم” على الساحل الساحر لمدينة يالطا الأوكرانية و التي كانت قد شهدت قبل نحو نصف قرن من ذلك التاريخ الإجتماع التاريخي الذي جمع كل من الرئيس الأمريكي روزفلت و الرئيس الروسي ستالين و رئيس الوزارء البريطاني تشرتشل
و الذي خصص لمناقشات كيفية تقسيم ألمانيا وكيفية محاكمة أعضاء الحزب النازي وتقديمهم كمجرمي حرب، بالإضافة إلى كيفية تقسيم المانيا، حيث وقع في نهاية تلك المناقشات معاهدة بين تلك الدول تتعلق بموضوع النقاش عرفت بمعاهدة يالطا.
لقد كنت محظوظا في حياتي بأن أتيحت لي الفرصة للتنقل بين العديد من الدول في كافة قارات الأرض، و شاهدت اراضي و وديان لا يمكن وصفها إلا بكونها جنان في الأرض، ففيها كل ما تشتهيه العين و ترتضيه الروح و تهواه القلوب، مع تجارب غنية تعرفت فيها على أفراد و جماعات أضافت لي الكثير فكريا و ثقافيا و روحيا.
بقيت أوكرانيا في ذاكرتي بلاد كل مافيها جميل، فالبشر و الأرض و الفضاء تحاكيك بلغة راقية و بروحية تتجاوز فجاجة الروس و ترتقي على الأرستقراطية الفرنسية و تحاكي الأريحية الأمريكية، فظهرت أمامي و كأنها لوحة سريالية بريشة عبقري فضل أن يصنف ضمن المجانين في عالم لا يفهم إلا المعقول.
كانت يالطا وقتها تمر بمرحلة إنتقالية بين ماتبقى من التركة الروسية الإشتراكية إلى المحيط الغربي الرأسمالي، فكنت تجد الجميع يحاول أن يتلون بعلم لا تتضمنه أي من ألوان موسكو ولا يرتبط بأي معلم من معالم التاريخ الروسي و الذي عمل لعقود على طمس هوية هؤلاء الأوكران و تحويلهم لمسوخ تابعة تماما كما تحاول اليوم فعله مجددا.
كانت تعد هذه المدينة في المرحلة التي سبقت سيطرة الشيوعية في روسيا (الريفييرا) الروسية تماما كما هي “كان” و “مونتيكارلو” بالنسبة لفرنسا اليوم، فكان القيصر نيقولا الثاني يأتيها للإصطياف كل عام و السكن في ذلك القصر الذي شهد بعد سقوط القيصرية الإجتماعي الأمريكي البريطاني الروسي الذي تم الإشاره إليه.
كيف يمكن لك أن تشعر و أنت تلامس مياة البحر الأسود التي توسد إحدى مغاراتها أمير أدباء الروس العظيم (بوشكين) حيث كان يعتزل لكتابة ملاحمه و يتناجى فيها مع شياطينه التي ولدت لنا أعمال خالدة مثل “دوبرفسكي” و “أسير القفقاس” و هو الأديب الفيلسوف الذي كان يرى أن هناك رابطة بين الشعر والمجتمع من جهة و بين الفن والتعليم من جهة أخرى، و أن الفن يجب أن يكشف عن حقيقة الحياة، وهي أفكار لاشك أنها تحاكي كل العصور و الأزمنة خصوصا إذا ما نظرنا لواقعنا الحالي الغارق بالمادية و الجدلية و كل أنواع الإنتهازية البشرية.
لدي شعور قوي بأن العالم أصبح متأزم وغير قادر على العيش بسلام، فهو لا يريد أن يرى جنان الأرض مراتع للعشاق أو مزارات للهائمين بالإنسانية و الباحثين عن معاني الجمال و فردوس الأرض المفقود، فتجدهم يعملون بكل ما لديهم من قوة على هدم و رزع القلاقل و عدم الإستقرار في أي دولة أنعم الله عليها بجمال الأرض و البشر.
أوكرانيا اليوم تمر بمرحلة سياسية إنتقالية لست خبيرا فيها لأنظر على القارئ الكريم بخصوصها، إلا أن معاني الرقي الإنساني قد تكون أحيانا وبالا على أصحابها، و الحقد الذي يحرك البعض قد يكون ناتج عن عدم رغبة في الإعتراف بقصور الذات و رغبة سادية بفرض الهيمنة، تماما كما نفضته تجارب التاريخ العربي علينا من إحتلال سوريا للبنان و محاولة إحتلال العراق للكويت.


أرسلها عبر الفيس بوك
انشرها عبر تويتر

عزيزي زائر المدونة أشكرك على تلطفك بالمحافظة على النقاش الهادئ و المتزن و الهادف للإستفادة و الإفادة. تحياتي ... ياسر

6 responses to “أوكرانيا القرم .. ذكرى التاريخ و الحاضر”

  1. reem zeyad

    اهلا بك: أعجبتني مدونتك حول رحلتك لأوكرانيا وأعجبتني طريقه سرد الرحله بشكل يجمع بين التشويق و الأثاره مع المعلومات القيمه حول دوله اوكرانيا مما يرشد كل من ينوي السفر لهذه الوجه شكرا لك و يسلمو أيديك

  2. manicure

    When I initially commented I clicked the “Notify me when new comments are added” checkbox and now each time a comment is added I get several emails with the same
    comment. Is there any way you can remove me from that service?
    Many thanks!

  3. الجورنالجى

    شكرا على الطرح الوافى وننتظر المزيد من الموضوعات ونتشرف بزيارة موقعنا بكم
    الجورنالجى هو
    موقع فيديو عربى يركز على رصد واقع المجتمع بكل متناقضاته من خلال تبويب متنوع يبدأ من الاهتمام بـ اخبار مصر, انتخابات مصر ,احزاب سياسية, علاقات زوجية, قصص حب . مصر بالفيديو هاتشوفها زى ما هى
    http://www.algornalgytv.com/

  4. عبدالله مرزوق

    أسعد الله مساؤك بكل خير أستاذي ياسر الغسلان . مقالة رائعة حقيقةً لأن بها وصف عميق لحال هذه الأرض شبه جزيرة القرم وهذا الشعب الاوكراني. وجدت أن تحليلك للشعب مقنع لأنني بالفعل عرفت عن قرب بعض الشخصيات الأوكرانية وهي كما ذكرت بالفعل.

    حقيقة لست معتاد على أسلوب الغسلان بالكتابه إنما يبدوا الكاتب باهت المغزى وعميق الفكره والأهم من ذلك هو وجود الرؤية الشخصية للكاتب واللتي تبدوا واضحه بجلاء في هذا الموضوع.

    إنما لم أجد غزارة للأحداث والمواد التاريخية حتى لو كانت المصادر من الاهالي المحليين ، كما أنني كنت أبحث عن براهين وأمثله لمحاولات الروس لطمس الهوية الأوكرانية.

    شكراً،

  5. shymaa

    impressive

  6. ضياء

    احتلال سوريا للبنان !!!؟؟؟

اترك تعليقاً