المقال منشور في جريدة البلاد السعودية
من أهم ما يميز القضاء البريطاني أنه يتناول القضايا وفق الإثباتات، لا وفق الأجندات السياسية، أو المحركات العقائدية، والتي تتبدل بين الحين والآخر، بناء على من يحكم البلاد من الأحزاب والقوى السياسية، وبذلك يعمل باستقلالية تامة وانحياز للحقيقة المبنية على
الدلائل والبراهين، وهو الأمر الذي فشلت في تحقيقه مؤخرا صحيفة “ذي إندبندنت” والتي تعني باللغة العربية “المستقلة”،على الرغم مما تدعيه من كونها صحيفة تسعى للعمل الصحفي الاستقصائي المحترف والبعيد عن الأجندات التي تحركها مواقف سياسية وأجندات حزبية تخدم أهداف موجهة.
خلال الأسبوع الماضي اعتذر كل من صحيفة “ذي إندبندنت” والصحفي اللامع “روبرت فيسك” علانية للأمير نايف بن عبد العزيز بناءً على أمر المحكمة، والتي ألزمتهما بذلك إضافة لدفع تعويض مالي بعد أن ثبت أن الوثائق التي اعتمدها “فيسك” في مقاله الذي نشره وادعى فيه قيام الأمير نايف بتوجيه أوامره بإطلاق الرصاص الحي لقمع مظاهرات مزعومة، كانت وثائق مزورة، ولا أساس لها من الصحة.
خلال الأسابيع الماضية تكشفت للعيان عدد يفوق المعدل الطبيعي لفضائح وأخطاء الإعلام التقليدي، وتجاوزاته في تعاطيه من قضايا حساسة مر ويمر بها العالم، وهي أحداث تضع الإعلام في موقع اختبار للمصداقية والحيادية للمرة الأولى في وجه الإعلام الحديث، والذي هو بدوره لم يصل بعد لمستويات الدقة والحيادية في تناوله للمواضيع، ففي وقت يدفع المتخصصون والعاملون في الإعلام نحو الارتقاء بالإعلام الحديث من حيث المهنية ليصل لمستوى الإعلام التقليدي المعروف عنه الانضباط المهني، نجد أن هذا الإعلام العجوز أصبح وفي مسعى لكسب الوقت وتحقيق السبق أكثر استعجالا وأبعد انضباطية مما هو عليه الإعلام الحديث اليوم، والذي بدأ معظم المشتغلين فيه ينهضون ليرتقون بعملهم لمستوى الحياد والاحترافية التي يجب أن يكون عليها الإعلام.
ما قامت به “ذي إندبندنت” لم يعد جديدا في الإعلام البريطاني خصوصا في الآونة الأخيرة وخصوصا بعد انكشاف فضائح تنصت “نيوز أوف ذا وورلد” التي هزت ليس فقط الإعلام البريطاني، بل الإعلام العالمي أيضا، وبعد فضيحة مقالة الصحفي الإنجليزي جون هاري “الجانب المظلم لدبي – The Dark Side of Dubai” والذي كتبت عنها الأسبوع الماضي في هذه الصحيفة،
والذي كذب وفبرك فيها أحاديث لشهود قال إنها تعيش حياة المشردين في دبي إثر الأزمة الاقتصادية العالمية، إلا أن الجديد في الأمر هو وقوع صحفي مخضرم كروبرت فيسك في فخ اللامهنية، والتسابق مع السبق اعتمادا على وثائق لم يعمل جهده للتثبت من دقتها ومصداقيتها، ووقوفها أمام القضاء، وهي رعونة إعلامية أرجعها البعض إلى إنها ناتجة عن تضليل مصادره العربية المحيطة والتي لها أجنداتها المعادية للسعودية، والتي استطاعت من خلالها تمرير تلك الأكاذيب، مما يثبت لنا بأن حتى الكبار والعارفين بخفايا العمل الإعلامي قد ينجرفون باتجاه تحقيق السبق على حساب المصداقية والمهنية والحياد الإعلامي غير الموجه.
عندما كنت مديرا لتحرير صحيفة الشرق الأوسط ومديرا لمكاتبها في السعودية أتذكر جيدا التذمر المستمر لبعض الزملاء من الصحفيين الشباب من ضرورة الالتزام بتوجيهات رئيس التحرير، والتي كانت تنص على ضرورة أن تبنى المواد الصحفية وأن تجهز وفق أسس مهنية صارمة ربما أهمها هو التثبت دائما من مصدرين مختلفين يمثلان طرفا الموضوع مهما كلف الأمر ذلك، فنقل الصورة من وجهة نظر واحدة لا تعطي الصورة الكاملة بل ربما تعطي صورة غير حقيقية وكاذبة، أحيانا بسبق إصرار وترصد من المصدر وأحيانا أخرى لضعف من الصحفي وعدم إلمامه بأسس العمل المهني والحيادي والمستقل، وهي أمور قد تضع الصحيفة في موقع المساءل من لدن القانون البريطاني الذي تخضع له الصحيفة التي تأخذ من العاصمة البريطانية مقرا لها.
التحقق من المعلومة والقيام بالعمل الصحفي وفق أسس المهنية ليست دعوة للرقابة الداخلية أو الابتعاد عن العمل الصحفي الاستقصائي بل هي دعوة للمضي نحو التقصي والبحث المتجرد بهدف كشف الحقيقة ولا شيء غيرها، على الرغم من أني أعترف بأن السعي نحو الحقيقة دائما ما ينطلق من خلال تلقينا معلومة من مصدر مطلع أو من إشاعة قوية أو من قصه وصلت لآذاننا مشوهه وغير واضحة، وهو ما يجعلنا كإعلاميين نسعى لـ”فلترة” تلك المعلومات والتأكد من خلوها من أية شوائب وتضليلات وأجندات وأفكار موجهة من خلال التأكد من أكثر من مصدر وذلك لنوصل في نهاية المطاف للمتلقي المعلومة الصحيحة ونحقق بذلك كشفا للحقيقة التي لا يمكن إنكارها.
لا شك في أننا نقف اليوم أمام واقع يعاد فيه تشكيل الإعلام وفق أسس واضحة لا تعتمد كما كان الحال عليه في الماضي على الأسماء أو المرجعيات أو القوى المالية المهيمنة، بل على مدى القرب أو البعد عن الحقيقة التي تثبتها الدلائل الدامغة وعلى تراكم المصداقية لتلك الوسيلة أو تلك، فمع كثرة الوسائل وتعدد المصادر وتنوع الأسماء واختلافها سيكون عامل الإثبات هو الفاصل في الأمر، فنحن اليوم نتلقى كما هائلا من المعلومات ومن مصادر مختلفة من شبكات اجتماعية وصحف ورقية ومواقع إلكترونية وخدمات هاتف خبرية وغيره، ولم نعد نستطيع وفي خضم هذا الكم التفريق بين الحقيقي والمضلل وهو الأمر الذي سيدعونا خلال الفترة القادمة لاختيار الأساس الفاصل لديمومة الإعلام الناجح، فلن يكون النجاح في تقديري حينها كم من مادة صحفية نقلت وأوصلت للمتلقي بل كم من مادة حقيقة ومثبتة أوصلت له.
I just want to say I am just very new to weblog and honestly liked this page. Probably I’m likely to bookmark your blog . You absolutely come with awesome well written articles. Thanks a lot for sharing your blog.