“برنو” … معنى الثورة من جديد

في الحدود بين سلوفاكيا و جمهورية التشيك و أثناء رحلة القطار القصيرة نوعا ما بين الدولتين اللتان كانتا في يوم جمهورية إشتراكية واحدة وصلني عبر الجوال رسالة مفادها بأن الرئيس التونسي زين العابدين بن علي قد غادر البلاد في إشارة لأن إنقلابا أو حركة تصحيحية أو ثورة شعبية قد
أصبحت حقيقة واقعية و أمرا معاشا في ذلك البلد الذي كان لعقود طويلة عربيا إسلاميا رغم ما قام به نظامه السياسي السابق من محاولات متكررة لطمس حقيقته.
في تلك الدقائق و التي إجتزت بها الحدود بصمت مخيف و في هدوء لا مثيل له و في زحمت المعاني التي كانت تتمخض في كلا دقيقة حيال ما كان يحث في تونس وجدتني أتأمل حالنا العربي في هذا الشهر الغريب و العجيب و الذي قضيته عابرا حدود دول أوربية، فالقلاقل تتزايد يوما بعد يوم في الجزائر و تونس و السودان و مصر و أخيرا الأردن و الكويت، أقول في تلك الدقائق نظرت للخارج حيث كان الظلام سيد الموقف و مشارف مدينة “برنو” أصبحت تلوح شئ فشئ و تذكرت أني في تلك الآونة كنت للتو قد تجاوزت حدودا بين دولتين كانتا إلى عهد قريب دولة واحدة بنظام واحد و هدف أممي واحد هو طمس كل ملامح الرأسمالية و الفردية لكي ينعم الشعب و العمال و الطبقة الكادحة في وطن لا يعترف إلا بالمثل و الشعارات الرنانة و تأليه ثوار الشوارع و شهداء الإنتفاضة الشعبية المجيدة، هؤلاء الذين رسموا عظمة تشيكوسلوفاكيا و النظام الشيوعي العظيم.
وصلت لـ”برنو” ثاني المدن التشيكية من حيث الأهمية و عدد السكان و البالغ عددهم ٤٠٠ الف و هي المدينة التي توصف بـ” باريس منطقة موروفيا” و ” أحد أحياء فيينا” و ” مركز العمارة الحديثة” و ” مركز للمسرح التجريبي”، و قد كنت بين من يرغب في الخروج مباشرة للتمتع بتلك الأجواء الشتوية الباردة و بين من أراد أن يبقى في الفندق لمتابعة آخر مستجدات الأحداث في تونس و قد كانت الساعة حينها لم تتجاوز التاسعة مساء ، إلا أني و بعد تردد لم يطل قررت الخروج قناعة مني بأن ما كان يحدث في تونس سيصلني عبر الجوال و ثانيا بأن الأحداث قد تكون قد وصلت لقمتها و أن ما سيلحق سيكون بإتجاه العودة تدريجيا نحو الحياة الطبيعية .
المدينة تأسرك من اللحظات الأولى بواجهات أبنيتها الأنيقة و شوارعها العريضة و كثرة المساحات المخصصة للمشي و كمية الأسواق و المحلات التجارية التي تعرض للزائر كل جديد و منوع، و في زحمة تلك الليلة الإنقلابية قررت أن أجرب حظي في الذهاب لمشاهدة فيلم سينمائي خصوصا بعد أن تعثر ذلك في الإسبوعيين الماضيين نظرا لأن كل الدول و المدن التي زرت إعتادت على عرض الأفلام مدبلجة باللغة المحلية، و قد كانت المفاجأة سارة عندما أخبرتني بائعة التذاكر بأن الأفلام لديهم تعرض باللغة الأصلية، فقررت على الفور مشاهدة فيلم SEASON OF THE WITCH و الذي إستمتعت بكل لحظاته رغم أنه لم يكن من أفضل أفلام “نيكولاس كيج” من حيث الحبكة و التمثيل إلا أنه كان يكفيني حينها أن أجلس في تلك الغرفة الكبيرة مع عدد كبير من الناس الذين لا أعرفهم لمشاهدة أحداث درامية على لشاشة كبيرة لأحس بشئ من المتعة و إن كانت طفولية في غالبها.
خرجت من السينما لتصفعني البرودة و ضحكات رجلين بلكنة مألوفة و إن كانت غير واضحة المعالم، فإتجهت بفعل الجاذبية العربية بإتجاه مصدر الصوت أو هي الضحكات أو الكلمات فلم يكن واضحا حتى تلك اللحظة، إلا أن الضباب الذي كان يلف مسمعي حينها إنقشع لأجد رجلين في العقد الثالث من العمر يتحدثان بلهجة تونسية خالصة بصوت لافت و فرحة عارمة أمام محل الكباب الذي يعملان به، يقدران ماذا سيحدث لبن علي تارة و ماذا سيعني ما حدث لتونس تارة أخر، و أهل “برنو” يمرون بجانبهم يتسامرون و يضحكون بعقولهم المتفائلة و تلك الثملة و الحياة تمضي دون توقف فالكل هناك يعي معنى أن تعيش اللحظة.
في برنو الجميع جميل، الفتيان لا يخرجون إلا بكامل أناقتهم و الفتيات لا يفرقون ما إذا كان الوقت صباح أو مساء فالأزياء وفق آخر موضة بل آخر صرعة ربما الأدق أن نقول هو عنوان أجسادهم النحيلة، أما كبار السن فلا تتعجب إن وجدت سبعيني يمسك يد معشوقته و رفيقة دربه التي تصغره بسنتين أو ربما تكبره تمضي معه في جولة عصرية بين كنائس المدينة التي وسمت بحرفية بخدم الماسونيين و تتمخطر معه قرب أديرة المدينة الدينية و المتحفية و التي تشرح قصة الرجل الأول الذي سكن “برنو” منذ سبعين ألف سنة.
تهت في طريقي نحو أحد المواقع التي كنت أسعى لتوثيقها فيليما فسألت رجل و زوجته عن المكان فقاما بشرح الطريق للوصول فشكرتهم كما يجب و إتجهت وفق الوصف و قبل أن أصل مفرق الطريق الذي أخذ مني للوصول له خمسة عشر دقيقة إذ بالزوجين يقفان أمامي و يعتذران مني بأدب و يقولان بأن وصفهما كان غير دقيق و أنهم يريدان إيصالي للمكان، فتعجبت و أنا أسير معهم و تسائلت ( من قال بأن الأوربيين ليسوا كرماء،، هل يجب أن يكون لديهم خروفا أو بعيرا لكي يضرب به المثل ؟؟)، تنبهت بأني وصلت بعد أن شاهدت إبتسامة الرجل و زوجته التي لو أخذت نصفها و نفضتها في بعض العرب لربما عالجت بها كل الأحقاد التي تنخر أنفسهم تجاه بعض إخوانهم العرب.
غادرت “برنو” بعد يومين من وصولي لأترك فيها شئ من ذاتي في تلك الطرقات الواسعة و شئ من لحظاتي السعيدة على جدار محل الكباب الصغير ذاك  و لآخذ معي تذكرة فيلم جاء في وقته و رائحة البرد من كنائس تخيف و لكن بطريقة مريحة و لأحمل معي صورة إبتسامة فتى و فتاة  و حنان رجل مسن و سيدة عجوز و أحلام إثنان من أبناء تونس العزيز و أناقة مدينة تعرف كيف تلون نفسها و خبر محزن لم أكن أتمناه المتمثل بإستقبال المملكة لبن على بعد كل الفضائع التي قام بها.


أرسلها عبر الفيس بوك
انشرها عبر تويتر

عزيزي زائر المدونة أشكرك على تلطفك بالمحافظة على النقاش الهادئ و المتزن و الهادف للإستفادة و الإفادة. تحياتي ... ياسر

4 responses to ““برنو” … معنى الثورة من جديد”

  1. manicure

    I’m not that much of a internet reader to be honest but your blogs really nice,
    keep it up! I’ll go ahead and bookmark your website to come back later on. All the best

  2. jag swimsuits

    I think this is one of the most significant info for me. And i’m glad reading your article. But should remark on few general things, The site style is great, the articles is really nice : D. Good job, cheers

  3. Issac Maez

    I simply want to mention I’m newbie to blogging and truly loved you’re page. Probably I’m planning to bookmark your blog post . You surely come with wonderful article content. Regards for sharing your blog.

  4. Tweets that mention “برنو” … معنى الثورة من جديد -- Topsy.com

    […] This post was mentioned on Twitter by Yasser Alghaslan . Yasser Alghaslan said: في مدونتي: “برنو” … معنى الثورة من جديد http://alghaslan.me/brno […]

اترك تعليقاً